خلال الفترة ما بين نهاية مارس/آذار الفائت ومطلع إبريل/نيسان الجاري، انسحبت قوات الجيش الروسي من مدينة بوتشا وغيرها من مدن إقليم كييف شمالي أوكرانيا، لتتسلّم القوات الأوكرانية المناطق التي خضعت لأسابيع لسيطرة القوات الروسية، ويتمكن صحفيو وسائل إعلام غربية من دخول الأراضي المحرّرة.
استتبع ذلك الانسحاب إعلان الحكومة الأوكرانية الكشف عمّا سمّاه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بـ"إبادة جماعية"، اتّهم القوات الروسية بارتكابها في بوتشا، مع ظهور صور ومقاطع فيديو لجثث انتشرت في الطرقات، ومقابر جماعيّة قالت السلطات الأوكرانية، في الثاني من إبريل الجاري، إنّها عثرت فيها على 300 جثة، فيما قالت النائبة العامة الأوكرانية، إيرينا فينيديكتوفا، يوم الأحد 10 إبريل، إنه تم العثور على 1222 جثة في منطقة الإقليم.
أُدينت روسيا على نطاق واسع من قبل الحكومات الغربية، ووُصِفَ ما حدث في المناطق التي انسحبت منها بـ"الإبادة الجماعية" و"الجرائم ضد الإنسانية". كما أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن "صدمته الشديدة من صور المدنيين الذين قُتلوا في بوتشا"، مطالبًا بـ"فتح تحقيق مستقل يؤدي إلى مساءلة فعّالة".
اتفاق على وقوع "مذبحة" في بوتشا
العديد من الصور ومقاطع الفيديو انتشرت من بوتشا، أظهرت الجثث متناثرةً في طرقات المدينة، إضافة إلى صور المقابر الجماعية. وبطبيعة الحال وُجّهت أصابع الاتهام إلى القوات الروسية التي كانت لتوّها تُسيطر على المدينة ومحيطها، قبل انسحابها الذي قالت أوكرانيا إنه حدث سريعًا، لتحشد في المقابل نحو الشرق والجنوب. فيما قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، إنّ الانسحاب الروسي من بوتشا وغيرها من إقليم كييف، كان بغرض "توحيد الصفوف وتجديد الجاهزية".
وفي حين وُصف ما حدث في بوتشا بـ"المذبحة" على لسان مسؤولين غربيين، لم تُنكر روسيا بدورها تعبير "المذبحة" لوصف ما حدث هناك، ليتفق الطرفان على أنّ مذبحة وقعت في بوتشا، غير أنّ لكل طرف روايته التي يبدو أنّه قد حُشد لها إعلاميًا بشكل كبير.
من نُصدّق في بوتشا؟
في الثالث من إبريل الجاري، وبعد ساعات من انتشار صور ومقاطع فيديو من المدينة، أصدرت وزارة الدفاع الروسية بيانًا أنكرت فيه تعرض أيٍّ من السكان المدنيين لأعمال عنفٍ خلال فترة سيطرة قواتها على بوتشا، قائلةً إنّ الاتهامات الموجهة للقوات الروسية "ليست سوى استفزازات جديدة".
وقالت الوزارة إنّ القوات الروسية أكملت انسحابها من المدينة في 30 مارس/آذار 2022، وإنّه في 31 مارس، أعلن عمدة بوتشا جلاء الجنود الروسيين عنها بشكل كامل، دون أن يذكر وجود جثثٍ لمواطنين مُكبّلين في الشوارع. مضيفةً أنّ الحديث عن المذبحة وتناقل الصور ومقاطع الفيديو لجثث في المدينة، لم يحدث سوى بعد أربعة أيّام من انسحاب القوات الروسية "عندما وصل موظفو جهاز أمن أوكرانيا والتلفزيون الأوكراني"، بحسب بيان وزارة الدفاع الروسية، الذي اتفق معه وزير الخارجية الروسي في تصريحات أدلى بها بتاريخ الرابع من إبريل الجاري.
بالفعل ظهر عمدة بوتشا، أناتولي فيدوروك، في مقطع فيديو نُشر عبر صفحته على موقع فيسبوك بتاريخ الأول من إبريل 2022، لكنه أعلن أن 31 مارس هو يوم "تحرير بوتشا"، على خلاف ما أعلنته وزارة الدفاع الروسية من أنّ انسحاب قواتها تم بشكل كامل في 30 مارس.
سجّل عمدة بوتشا الفيديو من داخل المدينة، فبالتحقق من خرائط غوغل، تبيّن أن ما يظهر خلفه هو مبنى مجلس مدينة بوتشا، الواقع إلى الغرب من وسط المدينة.
وبالفعل لم يتضمن فيديو فيدوروك حديثًا عن جثثٍ أو مذابح، لكنّ ذلك قد لا يعني شيئًا، ففي السابع من مارس الفائت، صرّح فيدوروك لوكالة أسوشييتد برس قائلًا "الوضع كابوسي في بوتشا. لا يمكننا حتى جمع الجثث لأن القصف الثقيل لا يتوقف. الكلاب تمزق الجثث في شوارع المدينة". وفي 28 مارس، عاد عمدة بوتشا ليؤكد في تصريحات لوكالة أدنكرونوس الإيطالية، أنّ المناطق التي تسيطر عليها القوات الروسية "تشهد أهوالًا كالحرب العالمية الثانية".
الأقمار الصناعية تلتقط صورًا أقدم للجثث
في الرابع من إبريل الجاري، نشرت صحيفة ذا نيويورك تايمز صورًا التقطتها الأقمار الصناعية التابعة لشركة ماكسار، قالت إنّها تعود إلى أوقات سابقة من شهر مارس، وتُظهر تطابقًا في مواقع الجثث مع الصور التي انتشرت منذ مطلع إبريل بعد انسحاب القوات الروسية من بوتشا.
ونشرت شركة ماكسار أيضًا صورةً التُقطت عبر الأقمار الصناعية، قالت إنّها تعود إلى 31 مارس الفائت، أي بعد يوم واحد من انسحاب القوات الروسية وفقًا للرواية الروسية أو في اليوم نفسه الذي انسحبت فيه القوات الروسية وفقًا للرواية الأوكرانية. وتُظهر الصورة ما قالت ماكسار إنّها مقبرة بطول 14 مترًا إلى جوار كنيسة في بوتشا.
وفي الأول من إبريل، نشر حساب على موقع تويتر مقطع فيديو قال إنّه يُظهر جثثًا لقتلى في أحد شوارع مدينة بوتشا، ما يُناقض بيان وزارة الدفاع الروسية الذي قال إنّ الحديث عن مذبحة في بوتشا بدأ بعد أربعة أيّام من انسحاب القوات الروسية.
بدورها، أجرت شبكة بي بي سي مقارنة بين عناصر الفيديو الذي نُشر في الأول من إبريل، وبين صور الأقمار الصناعية المُؤرّخة بـ19 مارس، لتصل إلى نتيجة مفادها تطابق العناصر بين الفيديو والصور، إذ تَظهر الجثث على الطريق بالعدد والترتيب نفسه الذي تبدو فيه في الفيديو والصور.
هل التقطت ماكسار صورًا من بوتشا في 19 مارس؟
لدى الإعلام الروسي تحليله الخاص للصور التي التقطتها أقمار ماكسار ونشرتها وسائل إعلام غربية، من ذلك تقرير نشرته صحيفة برافدا وموقع War On Fakes، ينفي أن تكون أقمار شركة ماكسار التقطت أيّ صور من بوتشا يوم 19 مارس، استنادًا إلى بيانات موقع ماكسار نفسه.
بالتحقق من الخرائط المتوفرة على موقع ماكسار، لم يجد “مسبار” بالفعل أيّ بيانات تُظهر التقاط صورٍ من بوتشا ومحيطها في يوم 19 مارس. اعتمد “مسبار” خمسة نطاقات للبحث فوق بوتشا وحولها، وجميعها لم تُعطِ نتائج خاصة بالتقاط صورٍ بالأقمار الصناعية يوم 19 مارس، في حين تُظهر النتائج أنّ الأقمار الصناعية التقطت صورًا في أيّام 18 و21 و31 مارس 2022.
ربما إذًا لم تلتقط أقمار ماسكار صورًا من بوتشا في 19 مارس، لكنها على كل حال التقطت صورًا من المدينة بتواريخ أخرى من شهر مارس 2022، وهو ما لم تنكره وسائل الإعلام الروسية، غير أنّها أنكرت "حيادية" ماكسار وصورها، كون أحد أبرز عملاء الشركة هي وزارة الدفاع الأميركية، وأشارت إلى تقرير نشرته مجلة ذا نيو ريببلك الأميركية في 31 مارس الفائت، قالت فيه المجلة إنّ شركة ماسكار هي أكبر متعاقد مع البنتاغون في مجال الاستخبارات الجغرافية المكانية.
وقالت مجلة ذا نيو ريببلك أيضًا في التقرير نفسه إنّ ماكسار "ليست لاعبًا محايدًا حين يتعلق الأمر بالصراع العالمي"، مضيفةً "بالتالي ثمّة حدود لما يمكن أن تُخبرنا به هذه الصور وحدها، ففي بعض الأحيان قد لا تقدم حقيقةً لا شك فيها، وإنما فهم مُشوّه للقصة".
يُذكر أنّ مجلة ذا نيو ريببلك، تُوصف بأنّها ذات توجه يساري معتدل، ويُصنّفها موقع Media Bias/Fact Check (المتخصص في تصنيف التحيزات ودرجة الصدقيّة) بأنّها "منحازة بشكل معتدل إلى قوي تجاه القضايا الليبرالية"، وتُصنّف صدقيّتها بـ"المرتفعة"، فيما تقول المجلة عن نفسها إنها تتبنى الأفكار التي تدافع عن الإصلاح الليبرالي.
متى التُقطت الصورة إذًا؟
كما أسلفنا، تُظهر بيانات موقع ماسكار، أنّ صورًا التقطتها أقمار الشركة من مدينة بوتشا في أيام 18 و21 و31 مارس 2022، فمتى تحديدًا التقطت الصورة المثيرة للجدل التي نشرتها صحيفة ذا نيويورك تايمز والتي قالت إنها من يوم 19 مارس؟
وفقًا لتحليل أجرته قناة Rybar على تطبيق تليغرام، باستخدام أداة SunCalc التي تُقدّم بيانات خاصة بحركة الشمس ومراحل تغيّر حركة الضوء والظل؛ فمن المرجّح أنّ الصورة التقطت في الأوّل من إبريل. يعني ذلك، وفقًا للرواية الروسية، أنّ الصورة التُقطت بعد انسحاب القوات الروسية من بوتشا بيومين (30 مارس)، أو بيومٍ واحد وفقًا لفيديو عمدة بوتشا (31 مارس)، الأمر الذي يثير الشكوك تجاه الصورة، ويفتح باب احتمالات الفبركة، وفقًا للإعلام الروسي.
كان عمدة بوتشا قد أعلن "تحرير المدينة" في 31 مارس بالفعل، لكن أيضًا حدث أنّه في الأول من إبريل، خرج تاراس شابرافسكي، نائب عمدة بوتشا، في مقطع فيديو على تطبيق تليغرام، ليقول إن "المدينة لا تزال تحت الاحتلال" مطالبًا المواطنين بـ"عدم الاقتراب من الأشياء الخطرة".
وتزامن فيديو شابرافسكي مع تقرير نشره موقع شبكة قنوات زفيزدا الروسية الرسمية، صباح الأول من إبريل، جاء فيه أنّ قواتٍ عسكرية روسية سيطرت على مسافة خمسة كيلومترات من نهر إيربين باتجاه كييف، وأنها تُجري عمليات بحثٍ واستطلاع في المنطقة المتاخمة لحدود بوتشا.
قد يعني ذلك أيضًا، أنّ القوات الروسية لم تنسحب بشكل كامل من بوتشا، فيما يؤكد ذلك أنّها لم تنسحب بشكل كامل من منطقة إقليم كييف.
دور الطقس في المذبحة
بالنسبة للإعلام الروسي أيضًا، فإنّ الأشياء السوداء التي ظهرت في صورة الأقمار الصناعية على جانبي الطريق في بوتشا، ليست جثثًا، إنما كتل طينية تشكلت بسبب الأمطار التي تساقطت على المدينة خلال الوقت الذي يُفترض، وفقًا للرواية الروسية، أنّ الصورة التقطت فيه، أي الأول من إبريل.
لكن بالاستناد إلى نفس منطق التشكيك في الصورة، من خلال نفي أنّها التقطت في 19 مارس لأنّ بيانات موقع ماسكار لا تُظهر التقاطًا للصور من بوتشا ذلك اليوم؛ فتجدر الإشارة إلى أنّ بيانات موقع ماسكار لا تُظهر أيضًا أنّ صورًا التقطت من بوتشا في الأول من إبريل 2022.
في المقابل، ثمّة ما يؤكد أنّ صورًا من بوتشا التُقطت بأقمار باسكار في أيّام 18 و21 و31 مارس. وفي حين شهد يوم 31 تساقطًا للأمطار وفقًا لجداول الطقس، فإن يومي 18 و21 لم يشهدا تساقطًا للأمطار.
إضافةً إلى ذلك، وجد “مسبار” أنّ حساب شركة ماكسار على موقع تويتر، نشر يوم 13 إبريل الجاري صورةً قال إنّها مُلتقطة بواسطة الأقمار الصناعية، من مدينة ماريوبول جنوبي أوكرانيا، بتاريخ التاسع من إبريل 2022. لكن بالتحقق من البيانات المتاحة على موقع ماكسار، لم تُظهر النتائج صورًا مُلتقطة يوم التاسع من إبريل.
لكن عند تحديد تاريخ 11 إبريل، يظهر عمود دخّان على الخريطة، لم يكن ظاهرًا في التواريخ المتوفرة قبل 11 إبريل.
وحتى مع توسيع نطاق البحث حتى أكثر من سبعة آلاف كيلومتر مربع، لم تُظهر النتائج تاريخ التاسع من إبريل، ولم يظهر حتى 11 إبريل سوى تاريخ الثالث من إبريل.
هل يعني ذلك أنّ حساب ماكسار على "تويتر"، يُشارك الكذب هو أيضًا؟ الإجابة هي لا.
تُقدم شركة ماكسار العديد من الخدمات المتعلقة بتكنولوجيا الأقمار الصناعية. بعض هذه الخدمات تكون مجانية بشكل كامل، وبعضها مجاني في إطار مبادرة برنامج البيانات المفتوحة المخصّص لمراقبة الأزمات الإنسانية المفاجئة مثل الفيضانات والأعاصير.
الخدمات المجانية، مثل خدمة Search for Imagery (التي اعتمد عليها التكذيب الروسي لتاريخ صورة ذا نيويورك تايمز) لا تُقدّم كل البيانات المتوفرة لدى ماكسار، وإنما جزء منها، يمكن من خلالها ملاحظة التغيرات التي حدثت في منطقة معينة عبر صور الخرائط (كما فعلنا مع صورة ماريوبول التي نشرها حساب ماكسار على موقع تويتر)، لكنها صورٌ ليست ذات جودة عالية بما يكفي لإظهار التفاصيل، على عكس الصور الأخرى المشمولة في الخدمات المدفوعة أو الخدمات القائمة على شراكات معيّنة، إذ تعمل ماكسار في شراكة مع 140 مؤسسة إعلامية حول العالم، وفقًا لدانيال جابولنسكي الرئيس التنفيذي للشركة.
ومن تلك الصور المشمولة في الخدمات المدفوعة أو القائمة على شراكات مُعيّنة، الصور التي نشرتها صحيفة ذا نيويورك تايمز. يُمكن ملاحظة ذلك بسهولة، من خلال فرق الجودة الواضح بين الصور التي تقدمها خدمة Search for Imagery وبين الصور التي نشرتها ذا نيويورك تايمز.
هذا وحاولنا التواصل مع شركة ماكسار عبر البريد الإلكتروني المخصص لوسائل الإعلام، ولم نتلقّ ردًا حتى وقت نشر هذه المادة، لكن "بي بي سي" قالت إنها تواصلت مع الشركة التي أخبرتها أن تحليل قناة Rybar توصل إلى نتائج خاطئة، مؤكدة أن الصورة التقطت في 19 مارس.
كما قالت "بي بي سي" إنها أجرت تحليلًا لحركة الشمس وأطوال الظلال، أكّدت نتائجه أن الصورة التقطت صباح يوم 19 مارس، وليس الأول من إبريل.
حاولنا أيضًا التواصل مع ملاتشي براون، أحد الصاحفيين الثلاثة الذي أنجزوا تقرير ذا نيويورك تايمز، ومحرر رئيسي في فريق التحقيقات المرئية في الصحيفة، ولم نحصل أيضًا على رد منه حتى وقت نشر هذه المادة.
جثث تتحرك
لم تتوقف الاتهامات المتبادلة بشأن ما حدث في بوتشا عند خرائط ماكسار، فبعد إعلان انسحاب القوات الروسية من المدينة الأوكرانية، ظهرت مقاطع فيديو تُظهر جثثًا في الشوارع، استُخدمت كأدلّة على ارتكاب مذبحة بحق مدنيين في المدنية التي بقيت تحت سيطرة القوات الروسية أسابيع.
وعلى عكس الادعاء الروسي بأنّ ظهور الصور ومقاطع الفيديو لجثث في بوتشا لم يحدث سوى بعد أربعة أيّام من الانسحاب، نُشرت مقاطع فيديو منذ الأول من إبريل، تُظهر بوضوح جثثًا في طرقات المدينة، من ذلك مقطع فيديو تداولته حسابات أوكرانية على "تويتر" في الأول من إبريل، ومقطعين آخرين نُشرا عبر تطبيق تليغرام في الأول من إبريل أيضًا.
كما نشرت وزارة الدفاع الأوكرانية في الثاني من إبريل، مقطع فيديو يُظهر جثثًا على إحدى طرقات بوتشا، مُشبّهةً ما حدث في المدينة بمذبحة سربرنيتسا في البوسنة والهرسك عام 1995.
غير أنّ هذا المقطع أثار الجدل، واستخدمته حسابات ومواقع ووسائل إعلام روسية لإثبات اتهامها لأوكرانيا بفبركة ما حدث في بوتشا.
تجاهلت وسائل الإعلام الروسية أنّ توقيت نشر الفيديو يدحض الرواية الروسية نفسها الخاصة بأنّ بداية الحديث عن مذبحة في بوتشا كان بعد أربعة أيّام من يوم 30 مارس. في المقابل، أعادت نشر نسخة بطيئة من الفيديو، إذ تظهر إحدى الجثث وكأنها تُحرّك يدها.
لكن لدى شبكة بي بي سي تحليل آخر لما يظهر كحركة للجثة في الفيديو، وهو أنّ هذه الحركة ليست إلا علامة ربما تكون قطرة مطر أو بقعة تراب على زجاج السيارة، حيث تظهر العلامة في أجزاء مختلفة من الفيديو. وبالفعل كانت الأجواء ممطرةً في بوتشا في الأول والثاني من إبريل كما أسلفنا.
غير أنّ الحركة المزعومة للجثث لا تقتصر، وفقًا للرواية الروسية، على ذلك المقطع. ثمّة صورٌ نشرتها صحف ووكالات أنباء تقول وسائل إعلام روسية إنها تُظهر فبركة للجثث، حيث تظهر في بعض الصور جثث في مناطق لم تكن موجودة فيها في صور أخرى للمناطق نفسها. كما تُظهر صورًا تغيّرات لأماكن الجثث في المنطقة نفسها.
في الصورتين أعلاه يظهر تغيّر موضع الجثة. تحقق “مسبار” من ذلك، فوجد أنّ الصورة الأولى على اليسار، من التقاط وكالة أسوشييتد برس، في الثاني من إبريل، تَظهر فيها الجثة على الطريق. في حين تظهر الجثة على الرصيف في الصورة الثانية، من تصوير فرانس برس، أيضًا في الثاني من إبريل الجاري.
الصورتان من المكان نفسه، إذ تتطابق عناصرهما، كما أنّ الكتابة نفسها على السور الحديدي الأخضر موجودة في الصورتين. والصورتان أيضًا التُقطتا في اليوم نفسه، لكن مع فارق نحو تسع ساعات، إذ التُقطت صورة أسوشييتد برس في الساعة 6:13 صباحًا، بينما التقطت صورة فرانس برس في الساعة 3:18 مساءً. يمكن أيضًا رؤية جندي في الصورة الأولى، فيُحتمل إذًا نقل الجثة من الطريق إلى الرصيف.
في ما يلي صورتان تظهر في إحداهما (على اليسار) ثلاث جثث، بينما تظهر في الأخرى جثتان فقط. دليل آخر يستخدمه الإعلام الروسي لإثبات "الفبركة"، وتستند عليه بيانات الحكومة الروسية التي تصف صور ومقاطع فيديو بوتشا بـ"الاستفزازية".
لكن ثمّة فارق زمني بين التقاط كل صورة من هاتين الصورتين. هذه المرة الفارق ليس تسع ساعات، بل يوم كامل، إذ نُشرت الصورة الأولى على اليسار في الثاني من إبريل عبر الحساب الرسمي على "تويتر" لميخايلو بودولياك المُفاوض الأوكراني والمستشار في الرئاسة الأوكرانية. نُشرت الصورة مساءً، لكن ببساطة يمكن استيضاح أنها التُقطت نهارًا. كما أنّ الصور الأخرى التي تُظهر ثلاث جثث، جميعها التقطت في الثاني من إبريل، نحو الساعة الثالثة مساءً.
في المقابل، فإنّ الصورة الثانية على اليمين، حيث تظهر جثتان، التقطها المصور ميخائيل بالينشاك لصالح وكالة رويترز، في الثالث من إبريل، ويتضح أيضًا أنها التقطت نهارًا. ثمّة إذًا فارق زمني قد يصل لنحو 24 ساعة.
من المحتمل إذًا أنّ الجثة الثالثة قد نُقلت بغرض الدفن أو غير ذلك، فتسلسل زمن الصور يقول إنّه كان ثمّة ثلاث جثث، ثم صارت جثتان، وليس العكس، أي لم تُضَف للصورة جثة ثالثة بما قد يعزز مزاعم الفبركة. وعلى كل حال، وجدنا صورة تُرجّح بدرجة كبيرة احتمال نقل الجثة الثالثة للدفن، وهي صورة من التقاط وكالة فرانس برس، لكن في الثالث من إبريل، ولا تظهر فيها الجثة الثالثة، بينما يظهر رجل يحمل كيسًا أسود، ويستعد لنقل الجثتين المتبقيتين.
اتفاق على المذبحة
بالعودة إلى ما بُدئ به هذا التحقيق: اختلف الطرفان حول الجاني رغم اتفاقهما، في مرحلة ما، على أنّ مذبحة وقعت في مدينة بوتشا. لكن الفارق، أنه في حين تتهم أوكرانيا القوات الروسية بارتكاب المذبحة على مدار نحو شهر سيطرت فيه على المدينة المتاخمة للعاصمة كييف؛ تقول روسيا إن المذبحة حاصلة لكن الصور والادّعاءات المرفقة بها استفزازية، بينما "الحقيقة"، وفقًا لروسيا، هي أن المذبحة وقعت بحق جنودٍ روس ومواطنين أوكرانيين كانوا متعاونين مع القوات الروسية، قتلتهم القوات الأوكرانية بعد دخولها بوتشا.
التحليل الروسي في هذا الصدد قائم على نفي إمكانية بقاء الجثث في العراء مدة أسابيع على حالتها التي بدت عليها في الصور، خاصةً مع التغيرات التي شهدها الطقس في بوتشا خلال الفترة التي يُفترض أن الصور التُقطت فيها، حيث شهدت درجات الحرارة تقلبًا بفارقٍ وصل إلى 10 درجات في بعض الأيام، كما شهدت المدينة تساقطًا للأمطار في أيّام 24 و26 و29 و30 و31 مارس، وكذلك في يومي الأول والثاني من إبريل.
يؤدي ذلك، وفقًا للرواية الروسية، إلى ظهور آثار تحلل على الجثث لم تكن باديةً عليها في الصور المنشورة من بوتشا. وبحسب إيغور ماكاروف، مدير المركز الروسي للطب الشرعي في وزارة الصحة الروسية، فإنّه خلال اليوم الثاني أو الثالث من الوفاة تبدأ البقع الخضراء في الظهور على الجثة، قبل أن تبدأ في تغطيتها مع نهاية الأسبوع الأول من الوفاة أو بداية الأسبوع الثاني. بعد ذلك يبدأ اللون الأخضر في التحول إلى بُنيّ فأسود، هكذا تتحول الجثة كلها إلى اللون الغامق، قبل أن يبدأ انتفاخها بالغازات المتعفّنة.
يبدو حديث ماكاروف صحيحًا، بالاستناد إلى المصادر العلمية، فهذه هي بالفعل مراحل تحلل الجثث، وهكذا في أغلب الأحيان تظهر الجثث بعد أيّام وأسابيع من الوفاة. لكن للطقس دور أيضًا في عملية التحلل، وكذلك لطريقة الموت. كما أنّ هناك ما يعرف في الطب الشرعي بالتيبّس الموتي، أي تيبّس بعض عضلات الجسد عقب الوفاة.
في بعض الحالات يظهر التيبّس بأشكال غير اعتيادية، فقد تتحدى أطراف الجسد الجاذبية ببقائها مرفوعة عن الأرض. وفي معظم الحالات يكون التيبّس تقليديًا، حيث يبقى شكل الجسد على ما كان عليه لحظة الموت. على سبيل المثال، إذا مات شخص وأصابعه مقبوضة، فإن التيبّس الموتي سيُبقي أصابعه مقبوضة.
وعادةً ما يُستخدم التيبّس الموتي في الطب الشرعي لترجيح وقت الوفاة، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل الطقس والطريقة المحتملة للوفاة.
في أغلب الأحيان لا تستمر حالة التيبّس الموتي أكثر من يومين قبل أن تنتهي، وفي المناطق الأكثر حرارة قد يحدث الأمر بشكل أسرع. لكن أيضًا، يحدث أحيانًا أن تبقى حالة التيبّس الموتي وقتًا أطول من المعتاد، لعدة أيّام، خاصة في حالات الطقس قارس البرودة والبارد.
في بوتشا، كان الطقس خلال مارس باردًا في مجمله، ولم تزد درجات الحرارة العظمى في أكثر الأيام دفئًا عن 17 درجة مئوية، في حين وصلت إلى صفر في بعض الأيّام، وكانت الصغرى في أغلب الأوقات بالسالب، ولم تتجاوز سبع درجات مئوية، وذلك خلال يوم واحد هو 28 مارس.
وبما أنّ معظم الجثث لأشخاص قتلوا وبقيت جثثهم في العراء، فإنّ ذلك يزيد من البرودة التي تتعرض لها الجثة، ما يزيد بدوره من احتمال بقاء مرحلة التيبس الموتي فترة أطول.
العديد من الصورة التي خرجت من بوتشا، تُظهر جثثًا في حالة تيبسٍ موتي بأشكال مختلفة. الصورة الخلافية للجثث الثلاثة، تظهر بوضوح علامة تيبّس موتي في إحداها على الأقل، حيث أصابع الكفّ مقبوضة وغير مسترخية.
التُقطت هذه الصورة في الثاني من إبريل، ما يفتح الباب أمام عددٍ من الاحتمالات، من بينها أنّ الشخص ربما مات قبل يومين (31 مارس)، وربما قبل أربعة أيّام (29 مارس)، أو ربما قُتل قبل ساعات فقط من التقاط الصورة، رغم أنّ ذلك احتمال أضعف، كون برودة الطقس كما أنّها تُطيل فترة حالة التيبس الموتي، فإنّها أيضًا تُبطء البدء في دخول حالة التيبّس الموتي.
على كل حال، ووفقًا لكثيرٍ من مراجع الطب الشرعي، فإنّ أخصائيي الطب الشرعي يتخلّون عن التيبّس الموتي كمؤشر لتقدير وقت الوفاة، في حالاتٍ مثل موت أشخاص في الخارج في ظل درجات حرارة منخفضة.
وقد يعني ذلك أنّه لا يمكن الاستناد على حالة الجثث في الصور المُلتقطة من بوتشا، بشكل دقيق، لتأكيد أو نفي أي ادّعاء بخصوص توقيت وفاتها. يمكننا تأكيد ذلك بعد الاطلاع وتحليل عشرات الصور، حيث تظهر أشكال مختلفة للجثث في حالات مختلفة: تظهر الدماء واضحة حول الجثث في بعض الصور، وفي أخرى لا تظهر. يظهر التيبّس الموتي في بعضها، وفي البعض الآخر لا يظهر، وكذلك يظهر تحلل الجثث (وصولها إلى مرحلة الجفاف، وهي مرحلة متأخرة من التحلل قبل التعفّن)، وفي صورة أخرى لا يظهر ذلك.
من نُصدّق في بوتشا؟
بعد هذا التحقيق وما تضمنه من عرض وتحليل للبيانات المتوفرة وأدلة الأطراف المختلفة، يُمكن القول إنّ الإجابة على سؤال "من نُصدّق في بوتشا؟" قد تكون متوقفة على حدس المتابع، خاصةً أنّه في سياق الحروب تتضاءل إمكانية الوصول إلى الحقائق المُجرّدة. في الحروب والنزاعات المسلحة، يسود منطق البروباغندا.
المصادر