` `

رواية العدد صفر: عندما تتحوّل الصحافة إلى عمل بيروقراطي

نور حطيط نور حطيط
أخبار
18 يونيو 2022
رواية العدد صفر: عندما تتحوّل الصحافة إلى عمل بيروقراطي
يسلط كاتب الرواية الضوء على قضايا الشك والأخبار الزائفة وغيرها (Getty)

الأفكار الواردة في المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعبّر عن رأي “مسبار” بالضرورة.


تعتبر رواية العدد صفر من الأعمال الأخيرة للفيلسوف والكاتب الإيطاليّ إمبرتو إيكو، وهي من أهم الروايات العالمية التي تناولت منتوج حقل الإعلام، وسأعرض في هذه المدوّنة مضمون الرواية، بالتركيز على دور بعض رجال الأعمال في تحويل الصحافة إلى عمل بيروقراطيّ يخلو من أسس المهنة ويخدم أجندتهم الخاصة.

صحافة أم بيروقراطية

يوافق كولونا، وهو الشخصية الرئيسية في الرواية، سيماي الذي يعمل لصالح رجل ثري له أجندات خاصة به يُدعى الكومندور فيمركاتي، في الشروع إلى تأليف كتاب يتناول مذكرات صحفي وقصة سنة من العمل لإعداد جريدة يومية لن تُنشر أبدًا، وعنوان الكتاب سيكون الغد، وهو عنوان الجريدة التي سيحضّر لها أيضًا.
 

يعرضُ سيماي فكرته على الرجل الخمسيني كولونا، ويردف أنّ الأمر سيّان بالنسبة له، سواء قرر الناشر (الكومندور فيمركاتي) إصدار العدد الأول، أو عدل عن فكرة نشره، لأن خطة سيماي تقتضي أن يرأس كولونا قسم التحرير في الجريدة ويكتب مذكراته عنها، وعند انتهاء كولونا من الكتابة، ينشر سيماي الكتاب باسمه، ليعود عليه بأرباح طائلة. وفي حال واجه من لا يريد لهذا الكتاب أن يُنشر، سيطلب سيماي منه أن يدفع له مبلغًا ماليا معفىً من الضرائب.


يسأل كولونا سيماي: من المموّل؟ فيجيب بكلّ ثقة أنه الكومندور فيمركاتي، المعروف بأنّه يدير ما يقرب من عشرة فنادق على الساحل الأدرياتيكي، ويملك عددًا كبيرًا من دور المتقاعدين والمعاقين، وله بعض الصفقات المشبوهة، ويدير بعض المحطات التلفزيونية المحلية التي تبدأ برامجها في الحادية عشرة ليلًا ولا تذيع سوى مبيعات بالمزاد العلني ومنوعات إباحية.

يجتمع المحررون الستّة الذين تمّ اختيارهم بعناية من قبل سيماي، ومن بينهم مايا مريزيا، وهي عزباء تبلغ من العمر 28 سنة، لم تحصل على شهادة جامعية لأسباب عائلية.

عملت مريزيا في مجلة غوسيب التي تُعنى بنقل أخبار المشاهير، وقالت عن تجربتها في المجلة "وجب عليّ أحيانا، أن أقنع مغنية أو ممثلة، باختلاق صداقة حميمية مع شخص آخر، ثمّ أرافقها إلى موعدها معه أنا والمصورين، وأصورهما وهم يمشيا ممسكين أيادي بعضهم البعض، أو أثناء قبلة خاطفة..".


يشرح سيماي هدفه من تسمية الصحيفة بالغد ويعلل بأنًّ الصحف اليومية التقليدية تروي ما حصل أمس، أما التي يتطلعون إلى إنشائها ستتضمن ما يمكن أن يحصل "غدًا"، وليوضح فكرته يقول للمحررين"على سبيل المثال، في الساعة الرابعة انفجرت قنبلة، وفي اليوم التالي عرف الجميع ذلك. حسنًا، نحن من الساعة الرابعة إلى منتصف الليل، قبل الشروع في الطباعة، نكون قد اكتشفنا أحدًا قادرًا على مدّنا بخبر غير معروف عن المسؤولين المُحتملين، خبر لا تعرفه حتى الشرطة نفسها ونرسم سيناريو لما سيحدث في الأسابيع القادمة من تداعيات تلك الحادثة". 
 

وفي نفس السياق، يوكل سيماي مهمة تأليف مقال يتضمن سلسلة من التوقعات للمحرر لوتشيدي، ويملي عليه ذكر كلمات: لعلّ وربما. ثمّ ينبهه لضرورة أن يقص ما هو حقيقي، مرفقًا بأسماء بعض السياسيين، وأن يوزّع المادة الصحفية المنوي إنجازها بين مختلف الأحزاب، وأوصاه بإقحام أحزاب اليسار والعمل على تخويف القرّاء ببعض الأحداث المتوقعة للشهرين التاليين.


إشكالية الأخبار الزائفة وتوجيه الرأي العام

وفي محاولة من كاتب الرواية أن يعرّج على قضية الشك في الأخبار، يسرد المشهد التالي، حين يكشف المحرر برغادوتشيو في حديث يجريه مع كولونا في إحدى الحانات، أن أباه كان يكرر دائمًا عبارات: “لا تصدقوا الأخبار كما لو كانت منزلة” و"الصحف تكذب، والمؤرخون يكذبون واليوم التلفاز أيضًا يكذب". ثمَّ يردف برغادوتشيو: “خُذ مثلًا صورة الغاق الملطخ بالقطران وهو يحتضر على سواحل الخليج العربي، الصورة التي انتشرت في حرب الخليج الثانية، والتي تبيّن لاحقًا أنّها صورة مضللة وتعود إلى ثمان سنوات قبل ذلك، أثناء الحرب بين العراق وإيران، وفي روايات أخرى، قيل أنَّهم أخذوا هذه الطيور من حديقة الحيوانات ولطخوها بالبترول، ثمَّ يؤكد: ”نحن نعيش في عالم من الأكاذيب، وإذا علمت أنهم يكذبون عليك، فينبغي لك أن تشكّ دائمًا".
 

يحاول إيكو معالجة قضية الشكّ في روايته من منظور جديد، إذ عادة ما يُعتبر الشك سمة مفيدة، وضرورية في عالم بات يُسمّى بـ"ما بعد الحقيقة"، ولكن حين يصبح الشكّ حالة مرضية، كحالة الصحفيّ برغادشينو، يكون من الصعب التمييز بين المعلومات الحقيقية والمعلومات المضللة.
فالشك مثلًا في أحداث تاريخية مؤكدة لا نملك لها أي بدائل إبستيمولوجية، ما هي إلا حالة هوس وارتياب، وتشكيك سلبي، ضرره أكبر من نفعه.
 

يذهب مؤلف الرواية لمعالجة قضية المعلومات والأخبار المزيفة وآليات نشرها، من خلال حوار يدور بين كولونا وفريق التحرير، إذ يقول المحرر كوستانتسا: “.. ولكن مهما اختلقنا من أنباء.. لا أظنّ أنَّ بإمكاننا أن نملأ أربعًا وعشرين صفحة. تلزمنا أنباء أخرى”، فيجيب كولونا: "حسنًا ليس من الضروريّ أن نختلق الأنباء، يكفي إعادة تدويرها.. فالناس ذاكرتهم ضعيفة”.

ويردف "الجميع يعرف أنَّ يوليوس قيصر اغتيل في منتصف مارس/آذار، ولكن الأفكار مضطربة حول الموضوع، ابحث عن كتاب إنكليزيّ صدر حديثًا فيه بحث جديد في مقتل القيصر، ثم يكفي أن نضع عنوانًا مثيرًا على شاكلة “اكتشاف مذهل لمؤرخي كامبريدج.. حقيقة القيصر الذي اغتيل في منتصف مارس”، ونقصّ من جديد كلّ الحكاية وبذا نكون قد صنعنا مقالًا ممتعًا.

يتابع كولونا ويقول: "ربما أكون قد غاليت قليلًا في حكاية القيصر، ولكن إذا تكلمنا على قضية إقامة تريفولتسيو، فبالإمكان كتابة مقال عن التماثل بين القضية وبين قضية المصرف الرومانيّ Banca Romana. إنّها حكاية تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر ولا علاقة لها البتة بالفضائح الحالية. ولكن كل فضيحة تذكّر بفضيحة أخرى، تكفي الإشارة إلى بعض الشائعات، وسيمكن الحديث عن مسألة المصرف الروماني كما لو أنها وقعت أمس..".

في السياق نفسه، يُظهِر إيكو بعض الممارسات التي يقوم بها فريق تحرير الجريدة بقصد تضليل القرّاء، فمثلًا يبرز مشهد وصول خبر من وكالة إلى الجريدة مفاده: “تمثال آخر للعذراء يذرف الدموع في قرية صغيرة في الجنوب” ليراه سيماي ويقول لأحد المحررين: "رائع استمدّ منه مقالا مثيرًا".


لقد اتخذ مصطلح "ما بعد الحقيقة" مكانه في هذه الرواية، إذ أثار فينا صاحب الرواية، تساؤلات حول الثابت والمطلق والموضوعيّ، وأنَّ الواقعيّ والافتراضيّ أصبحا بحاجة إلى مجهر للتدقيق بينهما، ولضبط إيقاع الحقيقة.

المصادر

رواية العدد صفر، إمبرتو إيكو

اقرأ أيضاً

الأكثر قراءة