في تاريخ الأدب الساخر، اعتقد الشاعر اليونانيّ Archilochus الذي عاش في القرن السابع عشر، أنَّ لشعره الساخر قوة سحرية قادرة على تدمير الخصم، ويُروى أنَّ خطيبته وأباها انتحرا بسبب سخرية Archilochus منهما في شعره، بعد أن رفض الأب تزويجه لها.
ويُحكى أيضًا أنَّ هيبوناكس، شاعر يوناني آخر، حسبَ أنَّ لشعره قوة سحرية يستطيع من خلالها تدمير خصومه وأعدائه.
وارتبطت السخرية الهجائية بمعتقدات الشعوب القديمة، وانتقلت مع ثقافة الكتابة والقراءة، ثمّ ظهرت مع تطور التكنولوجيا الرقمية، التي وجدتها الأخيرة خطابًا نقديًا مقبولًا، تساهم في إعادة تشكيل القيم الاجتماعية والسياسية والثقافية وتساعد على خلخلة القيم الجامدة وعلى تعزيز الديمقراطية.
ويمكن تعريف المحاكاة الساخرة أو الباروديا بأنّها كلّ أثرٍ فنيّ يحمل في طياته أسلوبًا تهكميًّا يثير السخرية والضحك.
وساهمت التكنولوجيا في تطوير هذه المحاكاة، الأمر الذي دفعنا للتساؤل عن وظيفتها التي لم تعد كما كانت في السابق. فهل الباروديا أو المحاكاة الساخرة هي شكل من أشكال الفن أم نموذج للتضليل؟
السخرية وشبكات التواصل الاجتماعيّ
يدخل الملايين من المستخدمين إلى منصات التواصل الاجتماعيّ، التي بدورها تقدّم لهم خدمات تواصلية، يشاركون من خلالها تفاصيلَ حياتهم اليومية ومعتقداتهم وآرائهم.
فلا يمكن تجاهل ما قامت به شركة فيسبوك من تحديث عام 2010، حين حولت السؤال الذي كانت تطرحه على المستخدمين لتحديث الحالة من: ماذا تفعل الآن؟ إلى: بم تفكّر؟
الأمر الذي جعل المزاج العام الافتراضيّ يميل للاهتمام أكثر في يومياته على مواقع التواصل بجميع تمظهراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وبالتوازي، تصاعدت الأخبار المضللة والزائفة وأصبح نظام التواصل الاجتماعي أكثر تعقيدًا. فدأبت الكثير من المعاهد لدراسة المعلومات وتصنيفها بين معلوماتٍ صحيحة وأخرى زائفة.
فبرز المحتوى المفبرك والمحتوى المزوّر والمحتوى المضلل، وأيضًا التلاعب بالمحتوى، والسياق المزيف وكذلك الربط المزيف والتهكم والسخرية.
وغالبًا ما تخضع الأخبار المضللة إلى التدقيق من قبل المختصين، خلافًا للساخرة منها التي عادة ما تنجح في إثارة جدل وضجة كبيرين، من دون مرورها بعمليات تدقيق كبيرة وموسّعة.
التضليل في المحتويات الساخرة
أشارت منظمة اليونسكو في دليل "الصحافة والأخبار الزائفة والتضليل" إلى أنَّ مستخدمي الشبكة العنكبوتية عرضة لتصديق الأخبار الساخرة، ذلك بسبب التفاعلات الكثيفة في فضاء التواصل الإلكترونيّ، ويصبح من الصعب التمييز بين ما هو جاد وبين ما هو ساخر، وتخلق هذه الفكاهة تشويشًا لقرّاء الأخبار اليومية.
وأيضًا يمكن القول، أنَّ الشكل الذي يتم فيه تقديم المحتوى الساخر، يجعل من الصعب أمام غير المتخصصين أو المتابعين العاديين معرفة الحقيقة.
فخلال الحملة الأميركية عام 2020، "وجد موقع التحقق بوليتيفاكت التابع لمعهد بوينتر أكثر من 100 موقع إلكتروني ينشر معلومات ساخرة، من دون تحذير صريح."
وبحسب ما تمّ تداوله على لسان الموقع فإنَّ "هذا الأسلوب شائع لدى ناشري المعلومات الكاذبة لكسب المال عبر الإنترنت" بفضل الإعلانات الناتجة عن نشرها على نطاق واسع.
وفي حادثة أخرى، ذكرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في دليل التدريس والتدريب، أنَّه تم حظر موقع "خارباريستان تايمز" وهو عامود ساخر وموقع كان جزءًا من موقع أخبار باكستان توداي. ذلك لأنَّ في إحدى المقالات الساخرة التي حملت عنوان "باكستان لن تتسامح مع أي طائرة بدون طيار غير أميركية"، أُسيء فهم محتواها وتناقلتها الوسائل الإعلامية الهندية والبريطانية على أنها مقالةً حقيقية. كذلك بالنسبة للباكستانيين الذين اعتقدوا بأنَّ رئيس أحد الأحزاب الإسلامية الرئيسية في باكستان، "فضل الرحمن"، دعا إلى تدخل عسكري ضد النساء اللواتي يرتدين الجينز، وأطلق عليهنَّ لقب "أسوأ عدو" لباكستان.
وعام 2020، قام دونالد ترامب، الرئيس السابق للولايات المتحدة الأميركية بإعادة تغريد قصة عن بابيلون بي، Babylon Bee وهو موقع ساخر ذو نزعة محافظة، ويبدو أنّ ترامب شارك القصة على أنها قصة حقيقية وجدية، بعد أن جاء فيها بهدف السخرية، بأنّ تويتر كان يغلق صفحته للحد من انتشار الأخبار الزائفة والسلبية عن المرشح الديمقراطيّ (الرئيس الحالي) جون بايدن.
عادة ما تُستعمل المحاكاة الساخرة لنقد أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية، تستهدف المشكلات والأزمات التي تعاني منها البلاد، والمؤسسات. ولا تحمل في طياتها "فكرة تدميرية" إنما نقد إصلاحي وانتقاد مكامن الخلل، لتصحيح الأوضاع والسلوكيات.
وتُستخدم أيضًا السخرية كتقليد، ووسيلة للاحتجاج وطريقة للتعبير عن الاستنكار، وتناول المحظورات.
لكن، مع تطور التكنولوجيا والحياة الافتراضية، تحول هذا الفن في الكثير من المرّات إلى نموذج تضليلي وقع في شباكه الكثيرون.
ويقع على عاتق مستخدمي الشبكة العنكبوتية، الانتباه دون الوقوع ضحية هذه الأخبار الساخرة ودون مشاركتها، كأخبار جدية وحقيقية.
المصادر: