سبقت حرية الكلام ظهور الوثائق الدولية الحديثة لحقوق الإنسان، إذ تعدّ من أقدم المُثل المرتبطة بالديمقراطية وفكرتها، ويعود تاريخها إلى حدود القرنين الخامس والسادس بعد الميلاد، في اليونان التّي تميزت بما عُرف سابقًا بـ "أغورا"، وهو فضاء تبادل المعلومات والأخبار والحوارات بحريّة.
في حين لم يُعترف بحرية التعبير رسميًا كحقّ من حقوق الإنسان، إلّا حديثًا من خلال الإعلان العالمي والقانون الدّوليّ لحقوق الإنسان الذي نصته الأمم المُتحدة.
وعرّف العميد المشارك للشؤون الأكاديمية بكلية ماكيندري بولاية إلينوي الأميركية، وليام هاسكينز، حريّة الكلام بأنها "العملية التي يتواصل فيها الأشخاص بحرية ومسؤولية عند استخدام أي وسيلة من وسائل الكلام المحمي أو الأنشطة الشبيهة بالكلام".
وانطلاقًا من هذا التعريف، يأتي السؤال عن ماهية حرية الكلام ومدى أحقية الفرد في التعبير عن مشاعره وما يريده. وعن الحدّ الفاصل بين حرية الكلام، ونشر المعلومات الخاطئة والمضللة. وعن الإجراءات الحديثة لضبط الكلام غير الصائب والذي يُلحق ضررًا بالعملية الديمقراطية، ويزيد من توسع الشعبوية بأشكالها.
المسار التّطوري لحرية الرأي والتعبير
عودة إلى الوراء، تحديدًا إلى القرن العشرين، كانت حرية الرأي والتعبير مرتبطة بتشكيلة ثنائية التواصل، وتقوم بين فاعليْن: الدولة والمواطنين، عبر قناة وحيدة هي الوسائط الإعلامية التقليدية. تحولَ هذا النظام الثنائيّ إلى نظام متعدد الأقطاب مع نموّ منصات التواصل الاجتماعيّ. وبرزت قوانين وشروط جديدة ضمن الشبكة التواصلية المعقدة، ما أثارَ إشكالية حول التوازن بين حرية التعبير التي تدعمها الدول الديمقراطية وتعتبرها حقًا أساسيًا محميًا بالدستور، وبين الكلام غير المسؤول، المُضلل والمُرافق للفوضى.
وأظهرَ الإعلام الاجتماعيّ قوّته كوسيلة للمستخدمين في جميع أنحاء العالم، لممارسة حقهم القانوني في حرية الرأي والتعبير، وفي حريّة البحث عن المعلومات وتداولها، لكن ضمن الحدود التّي يعينها القانون الدولي بشكلٍ دقيق، حفاظًا على الديمقراطية. فالأخير، يحظرُ دعاية الحرب، وخطاب الكراهية الذي يطال العرق والدين والقومية والتمييز على أساس النوع الاجتماعيّ، كما يحظر الكلام الذي يشكلّ تحريضًا وعنفًا وعداءً وكذبًا وتشهيرًا. ويسمح بضرورة فرض القيود المدروسة لضمان الحقوق والحريات.
إشكالية حرية الرأي والتّعبير المُطلقة
سعت منصة تويتر، قبل أن يستلم إدارتها إيلون ماسك، إلى وضع قيود منظّمة، شأنها شأن المنصات الأخرى، من أجل احتواء اضطراب المعلومات، عبر سلسلة من السياسات مثل إخفاء المحتوى أو تعديله ليكون مناسبًا ومطابقًا للمعايير التي وضعتها المنصة.
ولجأت المنصة في الحالات التي شكلت تهديدًا على المستخدمين إلى حظر بعض الحسابات ومنعها من النشر، مثل حساب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي أوقفته في يناير/كانون الثاني عام 2021، بعد هجوم مؤيديه على مبنى الكابيتول لأسباب تتعلق باتهامات زائفة روّج لها ترامب ضد منافسه، الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن.
و بعد استلام إيلون ماسك إدارة "تويتر"، دفعه إيمانه بنظرية حرية الرأي المُطلقة، إلى إعادة حسابات مستخدمين مثل دونالد ترامب، الذي نشر خلال 4 أعوام حوالي 30573 ادعاءً كاذبًا، بمتوسط 21 ادعاءً مضللًا في اليوم، وفقًا لتحليل صحيفة ذا واشنطن بوست.
وكان فريق تقصي الحقائق التابع للصحيفة، قد أعدّ قاعدة بيانات كاملة لمزاعم ترامب الكاذبة والمضللة على منصة تويتر .
ووفقًا لمنصة بلاتفورمر، المعنية بنشر أخبار وادي السيليكون، أعاد ماسك تفعيل ما يزيد عن 62 ألف حساب حتى الآن، كانت "تويتر" قد عطلتهم لأسباب تتعلق بنشر محتويات مُضللة. ومن السياسات التي لجأ إليها ماسك، دعمًا لحرية الكلام المطلقة، هي رفع القيود المتعلقة بمكافحة الدعاية المضللة حول فايروس كورونا.
أدّى تطبيق سياسة "حرية التعبير المُطلقة"، إلى زيادة انتشار الأخبار الزائفة وإلى تفاقم مشكلة المعلومات المضللة وخطاب الكراهية والتحريض، بحسب دراسات حديثة، كما علّقت شركات كبرى ومسؤولون وخبراء حساباتهم على “تويتر” احتجاجًا على السياسات الجديدة وتداعياتها على الحقيقة. ومن بينها المجلة الشهرية الأميركية لروّاد المسرح بلاي بل، إذ قالت في بيانها المنشور على منصة تويتر، قبل تعليق حسابها “في الأسابيع الأخيرة، توجّهت منصة تويتر بسياساتها، إلى التسامح مع الكراهية والسلبية والمعلومات المُضللة. ولا يمكننا بصفتنا منفذًا إخباريًا محترمًا، الاستمرار في استخدام المنصة حيث لا يمكننا نحن وقرّاؤنا تمييز الأخبار الحقيقية من الزائفة”.
حرية الرأي بين الحقّ والمسؤولية
كلّفت لجنة النطاق الواسع للتنمية المُستدامة المُشتركة بين الاتحاد الدوليّ للاتصالات واليونسكو، مجموعة من الباحثين الدولين لإجراء دراسة عالمية شاملة عام 2019، خلُصَ فيها التقرير البحثيّ إلى أنّه من الصعب مكافحة انتشار المعلومات المضللة دون معالجة تخوفات الدول الديمقراطية حول حُرّية التعبير. وعرضت الدراسة، دورة حياة المعلومات المُضللة، من التحريض واختلاق المعلومات، إلى طرق النشر، ثمَّ الأثر الذي تتركه على أرض الواقع. وللحدّ منها، طرحت الدراسة حلولًا تتعلق بتوجهات الصحافة الموثوقة إلى معلومات يمكن الاعتماد عليها.
وتوضح الدراسة التي نُشرت عام 2020، أنَّ المعلومات المُضللة لها آثار سلبية قد تؤدي إلى التلاعب بالمواطنين وتغيير آرائهم وزعزعة الثقة بالاستراتيجيات والمعايير المتفق عليها بين الدول الديمقراطية. كما أنها تؤثر بشكل سيء على سير العمليات الانتخابية في البلدان الديمقراطية، وعلى التحديات التي تواجه سكان كوكب الأرض حول التغيرات المناخية. كما يمكن لهذه المعلومات أن تكون خطيرة لدرجة الموت، خاصة عند ظهورها بوقت الجائحات المرضية مثل جائحة كورونا.
وتثير الدراسة إشكالية، الجهود المبذولة والسياسات المُتبعة من أجل التصدي للمعلومات المضللة عبر الإنترنت، والتي قد تتعارض بشكل أو بآخر مع حقّ التعبير. وتقرّ أنه من الضروريّ استخدام أدوات وسياسات للحدّ من انتشار المعلومات المضللة دونَ المساس بحرية الكلام.
إذ إنَّ التعبير بأشكاله، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتكنولوجيا المعلومات وبشركات التواصل الاجتماعيّ، التي تمهد مساحة التعبير وتسمح للمواطنين بنشر وجهات نظرهم المختلفة.
ولكن، على الجانب الآخر، فإنَّ أدوات حرية الكلام هذه، ومن أهمها وسائل التواصل الاجتماعي، زوّدت الأشخاص بمساحات لافتعال المشكلات وتأجيج الصراعات وتغيير آراء العامّة وتضليلهم، إذ يتعرّض المستخدمون لبحر من المعلومات، وقد يقعون أحيانًا ضحية المعلومات المضللة التي تجذب تحيزاتهم وتؤكّد معتقداتهم.
وبناءً على ذلك، تسعى الدراسة إلى اقتراح حلول لهذه المشكلة، منها اتخاذ خطوات في إعادة بناء العقد الاجتماعي، بما يتناسب والعصر التكنولوجي، تتمثّل بتعزيز ثقة المواطنين أكثر بالمؤسسات الديمقراطية، وبالوسائل الإعلامية الموثوقة، واعتماد الحوار لبناء الجسور داخل فضاءات الإنترنت، وتقييم خطر انتشار المعلومات المضللة من منظور حرية الرأي والتعبير.
وتميز الدراسة بين المعلومات المغلوطة والمعلومات المُضللة على الشكل التالي:
وتتماشى هذه التعريفات مع قاموس كيمبردج الإنجليزي الذي يعرّف المعلومات المُضللة "على أنها تتضمن خداعًا، في حين أنًّ المعلومات المغلوطة "أكثر غموضًا".
ويصعب التمييز بين النوعين على أساس النيّة، من قبل المستخدمين وحتى من قبل خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعيّ، ويصعب معرفة الدوافع وتحديد الجهات الفاعلة في الكثير من الأحيان.
لذلك تُعتبر مواجهة المعلومات المُضللة والمعلومات المغلوطة التي قد ترتبط بضرر مجتمعي معين، كالآثار السلبية على حرية الرأي والتعبير والديمقراطية وأزمة المناخ العالمية، تحديًا كبيرًا ومعقدًا.
وفي عام 2015، حددت الجمعية العامّة للأمم المتحدة 17 هدفًا عالميًا للتنمية المستدامة. وتقول إحدى البنود في هذا الصدد:
“تتعرض حقوق المواطنين في التعبير عن أنفسهم بحرية، والمشاركة على أساس مستنير في المناقشات المجتمعية على الإنترنت، للخطر بسبب المعلومات المضللة، لا سيما عند انتشارها على نطاق واسع. ويمكن للمحتوى الكاذب أن يزعزع إيمان المواطنين وثقتهم في الحقائق والعلوم والعقلانية فيثير شكوكهم في المعلومات المتاحة على الإنترنت التي تتعارض مع آرائهم الشخصية”.
الحد الفاصل بين حرية التعبير ونشر الأخبار الزائفة
لا شكّ بأن نشر المعلومات المُضللة ونظريات المؤامرة على مواقع التواصل الاجتماعيّ له عواقب وخيمة. نستذكر هُنا حادثة مطعم البيتزا كوميت بينغ بونغ، وارتباطها بنظرية بيتزاغريت المؤامرتية.
فبالعودة إلى عام 2016، في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأمبركية، ظهرت نظرية بيتزاغريت، التي بدأت مع اختراق البريد الإلكتروني لمدير حملة المرشحة السابقة هيلاري كلينتون، إذ نشرت وكالة ويكيليكس رسائله الخاصة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016.
روّج معارضو كلينتون حينها لمزاعم بأنَّ الرسائل تتضمن فضائح تكشف تورط مسؤولين كبار في الحزب الديمقراطي مع بعض المطاعم الأميركية بالاتجار بالبشر. وشاركَ الكثيرون هذه النظرية دون التأكد من مزاعمها والتي نفتها إدارة شرطة العاصمة في كولومبيا لاحقًا.
أدّت مشاركة هذه النظرية على صفحات التواصل الاجتماعيّ، إلى إطلاق رجل من ولاية كارولينا الشمالية النار على مطعم يحمل اسم كوميت بينغ بونغ، زُعمَ أنه مشارك فيها.
عام 2020، في دولة بوليفيا الواقعة في أميركا اللاتينية، أدى نشر مقاطع فيديو تتضمن معلومات مضللة عن مسؤولية تقنية الجيل الخامس عن انتشار فايروس كوفيد-19، إلى تدمير بعض الأشخاص أبراج الهواتف، واشتعال الاحتجاجات التي انتقلت إلى مختلف الدول الأوروبية والأميركية، حيثُ انتشر المحتوى المضلل ذاته.
وتسرد أستاذة الأمن الدوليّ ماورا كونواي، حوادث أخرى مثل الهجوم الإرهابي الذي وقع في نيوزيلندا عام 2019 على مسجدين، وأسفر عن مقتل 51 ضحية، إذ ارتبط فعل الجاني بإيمانه بنظرية "سيادة البيض"، وكان قد عبّر عن أفكاره على مواقع التواصل سابقًا.
كلّ هذه الأمثلة، توضّح تداعيات التدفق الهائل للمعلومات المُضللة، على الفرد والمجتمع بكافة أطيافه، وتأثيره على السلوكيات، والقرارات التي يتخذها الفرد كلّ يوم.
سياسات تكافح الأخبار المضللة وتحمي حرية الرأي والتعبير
في التقرير الذي أعدته الأكاديمية الدولية للقانون المُقارن عام 2022، بعنوان "قانون الولايات المُتحدة بشأن حرية الرأي والتعبير وتنظيم الأخبار الزائفة". بينَّ الباحثون أنَّ تنظيم المعلومات المُضللة اليوم بات حاجة ملحة تحديدًا في الولايات المُتحدة الأميركية، حيثُ أصبح التضليل يشكل خطرًا كبيرًا على سير العملية الديمقراطية، ويقدم التقرير الشكل الذي تسعى إليه أميركا لتنظيم وضبط المعلومات المضللة مع الحفاظ على عقيدة حرية الكلام. ويضع بين أيدي القُرّاء مخططًا لمعالجة المشكلة العالمية المُتمثلة في خطر زيادة المعلومات الزائفة والمضللة.
ويقترح في إحدى بنوده المتعلقة بالتعليم العامّ، "إضافة محو الأمية الإعلامية إلى مناهج الطّلاب"، خصوصًا بعد أن وجدت دراسة أجرتها مجموعة من باحثي جامعة ستانفورد عام 2016، أنَّ الطلاب الأميركيون يواجهون صعوبة في التفريق بين المعلومات الزائفة والحقيقية على منصات التواصل الاجتماعيّ.
ودعى التقرير إلى تحسين الثقافة الإعلامية، لنقل المعلومة وتقييمها والتعامل معها بطريقة نقدية لدى الطلاب. وفي السياق ذاته، دفعت الانتخابات الأميركية التي أجريت عام 2016، إلى سن مجالس تشريعية مختلفة في أميركا قوانين جديدة، لإنشاء وإضافة منهج محو الأمية الإعلامية في المدارس حتى الصف الثاني عشر.
ويطرح التقرير سياسة توعية الجمهور، فمثلا وفّرت كالة الأمن السيبراني والبنية التحتية في الولايات المتحدة الأميركية، أثناء جائحة كوفيد-19، مجموعة من الأدوات للسيطرة على الشائعات والمعلومات المضللة، وحملة تثقيفية من قبل وزراة الصحة والخدمات الإنسانية على صفحتها الإلكترونية المتعلقة بإيجابيات اللقاحات. كما قامت إدارة الصحة العامة في كاليفورنيا بتشكيل فريق ثقة يشجع المواطنين الذين يشعرون بأنَّ ما يتم تناقله عبر الوسائل الإعلامية ،غير صحيح، بالتواصل والإبلاغ عبر بريد إلكتروني مخصص للمعلومات المضللة.
وإلى جانب المؤسسات الرسمية، كانت هناك جهود المنظمات غير الربحية والمجتمعات المدنية، والكيانات غير الحكومية التي عملت على تأسيس ألعاب عبر الإنترنت تهدف إلى تعليم المستخدمين على تمييز المعلومات المضللة من المعلومات الصحيحة وتشجيعهم على التفكير في دقة المعلومات قبل نشرها وتصديقها.
المصادر
- washingtonpost
- washingtonpost
- onlinelibrary
- reutersinstitute
- The American journal of comparative law
- theconversation
- outlookindia
- hollywoodreporter
- vox
- bbc
- Platformer
- U.S. Media Literacy Policy Report 2020
اقرأ/ي أيضًا
فوضى الحسابات الزائفة على تويتر بعد البدء في إزالة التوثيق
تقرير: شركات التكنولوجيا غير مهيئة لمواجهة هلوسة الذكاء الاصطناعي