تداولت وسائل إعلام مؤخرًا، خبرًا مفاده أنّ سيدة مصرية من مدينة طنطا تعيش في أستراليا فوجئت حين تلقت نتيجة فحوص الجينات التي أجرتها، إذ تبين أنّ أصولها متطابقة بنسبة 100 في المئة مع مومياوات المصريين القدماء الذين يعودون إلى العصر الصاوي، وأنّ فحوص الحاسبات الوراثية أثبتت علاقة تريفينا بأجدادها المصريين، دون أي أصول أخرى، سواء أوروبية أو إفريقية، بمسافة 0.029.
وقالت السيدة تريفينا باسيلي لوسائل إعلام عديدة وهي تروي قصتها، إنّ الرغبة تملكتها لإجراء تحليل يبيّن تاريخها العائلي، وعليه استعانت بالمهندس المهتم في علم الوراثة والأنساب محمد عبد الهادي، الذي يعمل على جمع قاعدة بيانات عن المصريين وأصولهم، حسب قولها، بعدما شجعها على ذلك. وأوضحت باسيلي أنّ تلك النتيجة غيّرت منظورها لنفسها وأجدادها وشكّلت فارقًا بالنسبة لها "كنا نسمع أنّ المصريين ينتمون لأصول هجينة، وأنّ التركيبة السكانية فيها جنسيات وأصول مختلفة، ليتّضح أنّها فكرة مغلوطة فالشعب المصري متجانس إلى حد كبير".
ومنذ انتشار هذه الأخبار، تجدّد حوار الهوية المصرية الذي شغل الحيز المصري العام، بعد الجدل الذي أثاره مسلسل "الملكة كليوباترا" على شبكة نيتفلكس، وترافق مع ادعاءات حول الهوية المصرية والحوض الجيني الذي ينتمي إليه الشعب المصري. لكن ذلك أعطى مساحةً للبعض لنشر المعلومات المضللة والمغالطات العلمية بهدف تمييز قومياتٍ وأعراق عن أخرى، فما صحة ما ورد في الأخبار الأخيرة المتعلقة بالسيدة تريفينا باسيلي؟
هل هناك جين اسمه “الجين المصري"؟
أوضح الباحث في علم الأحياء التطوري الدكتور محمد سرور في حديث لـ "مسبار" أنّه لا يوجد علميًا شيء اسمه "الجينات المصرية"، لكن هناك ما يسمى بالحوض الجيني، ويُقصد بذلك مجموع المواد الجينية لجماعة من الكائنات الحية في وقت معين ونطاق جغرافي معين. إذ يوجد حوض جيني لكل أفراد النوع البشري، وأحواض جينية فرعية لبعض الجماعات البشرية التي عاشت بشكل شبه منعزل لفترة طويلة من الوقت، وهذه الأحواض الجينية في حالة ديناميكية دائمة بسبب الهجرات منها وإليها. والحوض الجيني الشمال أفريقي هو الذي تنتمي له الجماعة المصرية في آخر 14 ألف سنة.
وبحسب دراسة لمجلة ناشيونال جيوغرافيك نُشرت عام 2017، ضمن مشروع "جينوغرافيك"، الذي يهدف للإجابة عن الأسئلة الأساسية عن نشأة الإنسان وتطوّر حياته على الأرض، فإنّ أصول الحمض النووي للمصريين أكثر تعقيدًا وتنوّعًا مما يعتقد كثيرون. وأنشأ المشروع رسمًا بيانيًا يوضح التركيب الجيني العالمي للمواطنين في كل بلد من بلدانهم، وتم إجراء الحسابات بناءً على تحليل مئات العينات من الحمض النووي منذ إطلاق المشروع في عام 2005.
ووفقًا لحسابات المشروع، تتكون غالبية الحمض النووي المصري من 68 في المئة من جينات شمال إفريقيا، و3 في المئة من جنوب أوروبا، و3 في المئة من آسيا الصغرى، و3 في المئة من شرق إفريقيا، و4 في المئة من الشتات اليهودي، و17 في المئة من العرب.
هل التطابق بين إنسانين في الجينوم ممكن؟
يقول الدكتور محمد سرور لـ "مسبار"، إنّ من غير الممكن علميًا حدوث تطابق بنسبة 100 بالمئة بين جينومي فردين كما تدعي الأخبار المتداولة، وحتى لدى التوائم، تقترب النسبة من 100 في المئة، لكن تظل هناك فروق جينية طفيفة بينهم. كما أنّ النسبة في الأخبار المتداولة غير دقيقة بكل تأكيد لأنها لا تعبر عن كافة المواقع الجينية التي يجب دراستها، ففي كل جيل، يتراكم عدد من الطفرات الجينية وتزداد الاختلافات بين البشر مع مرور الزمن.
وهذا ما أكدته نتائج دراسة نُشرت يوم السابع من يناير/كانون الثاني عام 2021 في دورية نيتشر، إذ خلصت إلى أنّه رغم تشكل التوائم الحقيقية من البويضة نفسها وحصولهم على المادة الوراثية نفسها من الوالدين، لكن هذا لا يعني أنهما متطابقان وراثيًا بحلول وقت ولادتهما. والسبب أنّ ما يسمى بالتوائم المتطابقة تلتقط الطفرات الجينية في الرحم، حيث تنسج خلاياها خيوطًا جديدة من الحمض النووي ثم تنقسم إلى المزيد والمزيد من الخلايا. وفي المتوسط، تمتلك أزواج التوائم جينومات تختلف بمتوسط 5.2 طفرة تحدث في وقت مبكر من التشكّل، وفقًا للدراسة.
النقاء العرقي غير موجود
في عام 2017، ومن خلال دراسة نُشرت في دورية نيتشر، أراد فريق من الباحثين معرفة ما إذا كانت موجات الغزو المستمرة التي تعرضت لها مصر تسببت في أي تغييرات جينية كبيرة في السكان بمرور الوقت، وذلك من خلال أخذ جينومات الميتوكوندريا من 90 مومياء، حصلوا على الجينوم الكامل لثلاث مومياوات منها فقط.
وقال رئيس المجموعة البحثية والمؤلف الرئيس للدراسة فولفجانغ هاك في معهد ماكس بلانك في ألمانيا في بيان صحفي "لم تخضع العوامل الوراثية لمجتمع أبو صير الملق (115 كلم شمال القاهرة) لأيّ تحولات كبيرة خلال الفترة الزمنية التي درسناها، والتي تبلغ 1300 عام، مما يشير إلى أنّ السكان ظلوا غير متأثرين وراثيًا نسبيًا بالفتوحات والحكم الأجنبي".
جمع العلماء أيضًا بيانات عن التاريخ المصري والبيانات الأثرية لشمال إفريقيا، لإعطاء اكتشافاتهم بعض السياق، إذ أرادوا معرفة التغييرات التي حدثت مع مرور الوقت. ولمعرفة ذلك، قارنوا جينومات المومياوات بجينوم 100 مصري و125 إثيوبيًا.
وخلصت الدراسة إلى حدوث تدفق جيني من جنوب الصحراء خلال الـ 1500 عام الماضية، وعليه يتشارك المصريون المعاصرون بثماني في المئة من الجينوم الخاص بهم مع سكان إفريقيا الوسطى، لكن يرجِّح الباحثون ذلك إلى تجارة الرقيق عبر الصحراء أو فقط من التجارة العادية طويلة المسافة بين المنطقتين، كما يرجّحون أنّ تحسين التنقل على ضفاف نهر النيل خلال هذه الفترة أدى إلى زيادة تبادل الجينات.
ووفقًا لكتاب ديفيد رايش، أستاذ علم الوراثة في كلية الطب بجامعة هارفارد الأميركية، الذي يحمل عنوان "من نحن وكيف وصلنا؟ الحمض النووي القديم وعلم جديد للماضي البشري"، فإنه لا يوجد على الإطلاق عرق نقي بين البشر على الإطلاق، إذ يكشف الحمض النووي القديم أنّ اختلاط المجموعات البشرية المختلفة للغاية عن بعضها البعض هو سمة مشتركة في الطبيعة البشرية.
وبالنسبة لجينوم المصريين الحاليين ومدى اتصاله بالمصريين القدماء، يقول الدكتور محمد سرور لـ "مسبار" إنّه حقيقي، ولكن بنسبة تقترب من 80 في المئة -وهي نسبة مرتفعة- والاختلاف حدث تاريخيًا بسبب التدفق الجيني، وقد صنع الأخير تأثيره على جينوم المصريين الحاليين. لذا، فإنّ ادعاءات العرق النقي لا أساس لها، وكذلك ادعاءات انحدار المصريين من إفريقيا جنوب الصحراء.
أما بالنسبة للادعاء القائل بأنّ السيدة باسيلي تتشابه مع أجدادها المصريين بمسافة 0.029، وأنّ أي نتيجة أقل من 0.03 تعد دالة على أنّ الفاحص من نفس الشعب الذي تم الفحص منه، أوضح الدكتور محمد سرور أنه لا يوجد معيار علمي محدد لما يسمى "درجة النقاء"، بل يقتصر الأمر على قياسات لدرجة التشابه الجيني، وهي درجة نسبية تخضع لحجم المعلومات الوراثية والجينومات المتاحة للفحص والمدى الزمني الفارق بين العيّنات ومدى جودتها، كما أن نسبة 0.03 المتداولة حديثًا هي نسبة خاصة بالتطبيق الذي تمت مقارنة الجينات من خلاله، ولا يوجد ما يدعم هذه النسبة في البحث العلمي التجريبي.
هل قُورنت جينات السيدة بالمومياء بشكل دقيق؟
الجينوم البشري يحتوي على 4-5 مليون قطعة نطلق عليها تعدّد أشكال النكليوتيدات المفردة أو SNPs، وهي نوع خاص من الطفرات الجينية، تنتقل من جيل إلى جيل لفترة طويلة من الزمن. هذه القطع بعضها يحمل دلالة على الأصول العرقية المحتملة، وبعضها يحمل دلالة على الأمراض المحتملة.
وتتطلب دراسة وفحص هذه القطع بالكامل عمل جاد، ووقت طويل، وفريق علمي متخصص، وفريق مراقبة جودة وتدقيق، ذلك لأن معدلات الخطأ مرتفعة في رصد هذا العدد داخل جينوم الفرد الواحد، ومع مقارنة عدد ضخم يصل لآلاف وحتى ملايين الجينومات الأخرى، تتزايد معدلات الخطأ أكثر.
وقبل نحو 15 سنة تأسست في الولايات المتحدة عدد من الشركات تقدم خدمة التحليل الجيني للتعرف على الأصل العرقي للفرد، وتحاليل أخرى تقيس مدى احتمالية إصابته بالأمراض مثل السرطان، الربو وغيرها. لكن عملية المقارنات الجينية مخبريًا تتم بطرق معقدة ومحوسبة، بينما يوجد هناك طرق تجارية بسيطة لا تخضع لمراقبة الجودة ورخيصة التكاليف تقدم تلك الخدمة للجمهور العادي.
لكن ما تفعله تلك الشركات، بحسب الدكتور محمد سرور، هو خفض عدد الـ SNPs التي تتم مقارنتها، وتخفيض عدد العلامات التى يتم فحصها. (شركة 23ANDME -الأشهر في هذا المجال- مثلاً تركز على 640 ألف قطعة فقط).
وتطبيق Vahadou، الذي تمت مقارنة جينات السيدة باسيلي بجينات مومياوات العصر الصاوي بواسطته، ينتمي لنفس الفئة أيضًا، فهو تطبيق حسابي يعتمد بشكل أساسي على المدخلات البيانية ودقتها. ولا يمكن اعتماد نتائجه في المراجع العلمية المحكّمة بمفردها لأنّ التلاعب في نتائجه ممكنٌ وسهل. ووفقًا للجمعية الدولية لعلم الأنساب الجيني، فإنّ التطبيق يعتمد على قاعدة بيانات جينية تدعى Global25 (G25)، وتركّز على 300 ألف قطعة SNP فقط، مقارنةً بـ 4-5 ملايين قطعة تشكّل مجموع الجينوم البشري.
صورة نشرها المهندس محمد عبد الهادي على حسابه على تويتر لنتائج فحص جينات السيدة باسيلي
كما تعتمد هذه الاختبارات على مجموعة بيانات جينية سكانية متباينة، أي أنّ البيانات الخاصة بالشعوب الغربية وفيرة بسبب توافر بنوك جينية وتغطية تأمين طبي عالي المستوى، بينما البيانات الخاصة بالشعوب الأفريقية، والشرق أوسطية، وسكان بعض البلاد الأسيوية، والجزر البعيدة تعد شحيحة نسبيًا.
وهذا ينطبق على المعلومات الجينية للبشر الحاليين، أما بالنسبة لما هو متاح من معلومات جينية لأجيال سابقة، فهو شحيح للغاية بحكم طبيعة المادة الجينية، إذ يتكسّر الشريط الجيني بسهولة بعد الوفاة، ويستمر لنحو 50-60 ألف سنة في أفضل الظروف.
واستخراج الحمض النووي من رفات البشر أو مومياوات المصريين القدماء أو من القديسين في كنائس أوروبا أمرٌ بالغ الصعوبة، لأنّ الحمض النووي في هذه الحالات يكون تالفًا بسبب الظروف الجوية والبيئية الغير مناسبة، وهذا ما أقرّ به باحثو دراسة نيتشر المشار لها أعلاه بالإضافة إلى الدكتور محمد سرور. لذا، فإنّ المتاح من هذه المعلومات يبقى ضعيفًا إحصائيًا، ولا يغطي كافة الفترات الزمنية من التاريخ القديم.
ولا يمكن إغفال الطريقة التي تعمل بها تلك الشركات بهدف مقارنة الجينات، إذ تقارن مجموعة الـ SNPs الخاصة بالشخص المعني بمجموعات مرجعية معروفة، إذ تبحث تلك الاختبارات عن دليل على أن لديك أسلافًا مشتركًا مع أشخاص في المجموعة المرجعية. لكن المجموعة المرجعية التي تستخدمها كل شركة يمكن أن تكون مختلفة، والمجموعات المرجعية تتغير طوال الوقت.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الأشخاص الذين خضعوا لهذه هذه الاختبارات قبل بضع سنوات فقط، سيجدون أنّ نتائجهم قد تغيرت الآن. وتقول الشركات أنّ هذه سمة من سمات منتجاتها، وأنها كلما تحسنت في التنبؤ بالنَسب الجيني، فإنها ستنقل هذه المعلومات إلى المستهلكين. ومع ذلك، فإن الأمر يقوّض أيضًا من صدقيّتها.
وتستند تلك المجموعات المرجعية إلى حد كبير على الأشخاص الذين يبلغون عن أسلافهم بأنفسهم، وقد يكون هؤلاء الأشخاص واثقين تمامًا من أنهم يعرفون الجذور التي انحدرت منها عائلاتهم، ولكن هذا ليس مقياسًا مثاليًا.
ما هو العصر الصاوي؟
العصر الصاوي، أو حكم الأسرة السادسة والعشرون الذي بدأ مع الملك بسامتيك الأول، امتد من 672 إلى 525 قبل الميلاد من تاريخ مصر، وحكم خلاله ستة فراعنة. وتوسعت مصر إلى الشرق الأدنى في بدايات ذلك العصر، إذ تُظهر مجموعة واسعة من الاكتشافات الأثرية من بلاد الشام دلائل سيطرة مصرية في العقود الأخيرة من القرن السابع قبل الميلاد.
وعاشت مصر في العصر الصاوي نهضة سياسية وثقافية ودينية واقتصادية وأعيد تنظيم البلاط والإدارة وشاع استخدام الكتابة الديموطيقية (الشعبية) في أنحاء البلاد. وانتهى ذلك العصر بغزو الإسكندر الأكبر للإمبراطورية الفارسية وتأسيس سلالة البطالمة على يد الجنرال بطليموس الأول سوتر، ليبدأ عصر مصر الهلنستية.
المصادر
International Society of Genetic Genealogy
اقرأ/ي أيضًا
الدراسة التي نشرها معهد ألماني لا تُفيد بأنّ أدمغة الناطقين بالعربية أفضل من غيرها