تسعى دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جاهدةً للاستجابة إلى أزمة تهريب المخدرات، التي بلغت ذروتها عام 2022، إذ ضُبِط ما لا يقلّ عن 370 مليون حبة مخدّر في عموم منطقة حوض المتوسط والخليج، حيث تعمل مراكز الاستهلاك الإقليمية، ومنها المملكة العربية السعودية والأردن والعراق والإمارات العربية المتحدة، على تعزيز قدرتها على اعتراض الكبتاغون وحظره، بينما يطالب المشرّعون في الولايات المتحدة باستراتيجية مشتركة بين إدارات تلك الدول لمكافحته.
وبينما تتزايد الأدلة على مشاركة النظام السوري في تجارة الكبتاغون، وكونه اللاعب والمساهم الأكبر فيها في المنطقة، ظهرت رواية متسقة نسبيًا في أروقة النظام يتنصّل بها من هذه المسؤولية. وفي هذا الصدد، قدّم الباحث الاقتصادي الدكتور كرم شعار، بالتعاون مع الباحثة كارولين روز، أول تحليل شامل لتلك الرواية، محليًا ودوليًا، ومقارنة لها بأعمال النظام على الأرض، وذلك في تقريرٍ نشره معهد نيولاينز للاستراتيجية والسياسة الأميركي بعنوان "الغاية النهائية من لعبة النظام السوري والكبتاغون".
تحليل أخبار وكالة سانا
حلّل التقرير جميع المقالات التي تحمل كلمة "مخدرات"، في عنوانها ضمن الموقع الرسمي للوكالة العربية السورية للأنباء "سانا" من الأعوام 2015 حتى 2022، والتي بلغ مجموعها 612، وتراوحت مواضيعها بين الاعتقالات والتهريب والمصادرة المتعلقة بالمخدرات. وأضاف إلى تلك البيانات التقارير الرسمية التي قدّمتها سوريا إلى مكتب الأمم المتحدة المعنيّ بالمخدرات والجريمة (UNODC)، وتصريحات مسؤولي النظام، وأحكام الإعدام المتعلقة بالمخدرات المعلنة في الجريدة الرسمية السورية.
أما لفحص السياسات على أرض الواقع، حلّل مؤلفو التقرير نوعية الأدبيات والدراسات ذات الصلة الموجودة، وتتبعوا أخبار مضبوطات المخدرات المبلَّغ عنها من بلدان أخرى في المنطقة خلال عامي 2021 و2022، وضيّقوا نطاق البحث ضمن الأخبار التي حددت فيها الجهة الضابطة بلد أو منطقة منشأ شحنات الكبتاغون رسميًا وبشكلٍ صريح.
وعلى الرغم من الجمع بين مصادر البيانات هذه، يشير تقرير معهد نيولاينز إلى أنه لا يسعى إلى تقديم أي تحليل شامل لجميع مضبوطات المخدرات التي تمت في سوريا، وذلك بسبب وجود قيود كبيرة تحول دون ذلك، مثل شفافية البيانات المُقدَّمة بل يسعى عوضًا عن ذلك إلى تقديم الصورة التي رسمها النظام السوري وما نتج عنها من رواية حول تدابير مكافحة المخدرات، وتحديدًا تجاه تجارة الكبتاغون.
وفي حين أن الحكومة السورية أبلغت عن عدد كبير من المضبوطات، مقارنة بدول المنطقة الأخرى، إلا أن الكميات المضبوطة كانت أقل بكثير. ومع تراكم الأدلة التي تربط تجارة الكبتاغون بشبكات متحالفة مع نظام بشار الأسد، لجأت الولايات المتحدة ودولًا غربية أخرى إلى تطبيق عقوبات اقتصادية جديدة واستكشاف استراتيجيات شاملة لوقف العرض والطلب، في حين بحث الشركاء الإقليميون مثل الأردن والسعودية عن طرق لدمج قضية الكبتاغون بمناقشات التطبيع مع نظام الأسد.
مضبوطات الكبتاغون
بحسب التقرير، فإن تحليل المضبوطات التي أبلغت عنها وكالة سانا للأنباء يخلق تصورًا بأن الحكومة السورية، بقيادة وزارة الداخلية، تبذل قصارى جهدها لمعالجة تجارة الكبتاغون بمتوسط 90 ضبطًا، على الأقل، لجميع أنواع المخدرات سنويًا منذ عام 2019. وتشير البيانات التي جمعها الباحثون من وكالة سانا أيضًا إلى ارتفاع حاد في تقارير الدولة عن المضبوطات منذ عام 2018، ويتزامن هذا الارتفاع مع مكاسب إقليمية كبيرة للنظام السوري في الجنوب، الذي تحوّل لاحقًا إلى مركز إنتاج وتهريب للمخدرات ذات الاهتمام المحلي والإقليمي، وكذلك مع الانتشار الإقليمي المتزايد للكبتاغون.
كما لاحظ الباحثون انخفاضًا طفيفًا في عدد المضبوطات المبلّغ عنها في عام 2022 ضمن تغطية سانا للمخدرات، لكنه لم يتسنَّ لهم الوصول إلى سببٍ يوضح ما الذي يفسّر الانخفاض في التقارير الإجمالية عن المضبوطات في ذلك العام.
وفي حين أن عدد مضبوطات الكبتاغون المبلّغ عنها في سوريا (36 ضبطًا في عام 2022) قريبٌ نسبيًا من نظيرتها في أسواق المنطقة، مثل المملكة العربية السعودية (31 ضبطًا في عام 2022)، إلا أن طبيعة هذه المضبوطات تختلف تمامًا في ناحيتين تعكسان عدم رغبة النظام في مكافحة المخدرات بصدق، بحسب التقرير.
الأولى هي أن مضبوطات القنّب (الحشيش) التي أبلغت عنها وكالة سانا بلغت تقريبًا ضعف مضبوطات الكبتاغون، رغم أن الأخير أكثر ضررًا وربحية وانتشارًا. والثانية هي أن كميات الأقراص/الحبوب المضبوطة المبلغ عنها في كل مداهمة كانت أقل بكثير مقارنة بالمضبوطات في دول المنطقة الأخرى، على الرغم من وجود ورشات إنتاج عملاقة في سوريا.
للتوضيح، في المملكة العربية السعودية، بلغ متوسط حجم شحنة الكبتاغون المضبوطة 3.45 مليون حبة، بمجموع 107 ملايين حبة ضُبطت في 31 مداهمة على الأقل في عام 2022. بينما أبلغت سوريا عن 36 عملية مداهمة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، مع مجموع 4.1 مليون حبة، أي بمتوسط 169 ألف حبة فقط لكل عملية ضبط؛ أي 5 في المئة تقريبًا من عدد الحبوب المصادرة في المملكة العربية السعودية.
النظام السوري ينفي علاقته بالكبتاغون
وأشار تقرير معهد نيولاينز إلى أن الرواية العامة للنظام بخصوص المضبوطات غير متّسقة، مما يعكس الافتقار إلى التنسيق المركزي بين مختلف أذرع الحكومة. كما يلفت النظر إلى وجود ثغرات في البيانات، ويُرجع الباحثون ذلك إلى نقص التقارير المقدمة من النظام الذي يسعى إلى إبعاد المسؤولية والمساءلة المتعلقة بالتجارة عنه.
وتجدر الإشارة إلى أنه بعد عام 2018، مع بداية الحديث عن الكبتاغون كأزمة إقليمية، توقفت الحكومة السورية عن تزويد مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة بأي بيانات ذات صلة. وفي حين أن البيانات التي أبلغت بها سوريا مكتبَ الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، في العام الأخير من الإبلاغ، تشير إلى ضبط 12.7 مليون حبة، فإن مجموع المضبوطات حسب مقالات سانا عن العام نفسه لم يتجاوز الـ 200 ألف حبة.
وبالمثل، بينما ذكر بيان رسمي قدّمه ممثل حكومة النظام أمام لجنة الأمم المتحدة للمخدرات مصادرة 50 مليون حبة كبتاغون بين عامي 2020 و2021، تشير الأرقام الإجمالية من سانا إلى مصادرة 11.9 مليون حبة فقط.
ادعاءات حول تصنيع الكبتاغون
إضافة إلى ذلك، يسلط تقرير نيولاينز الضوء على بعض الأخبار الحكومية حول مضبوطات المخدرات التي يرجح وجود تلفيق لبعض تفاصيلها. على سبيل المثال، في 21 يوليو/تموز 2022، نشرت وزارة داخلية النظام السوري مقطع فيديو يُظهر مصادرة 67.6 كيلوغرامًا من مسحوق الكبتاغون المصبوب في قوالب كبيرة مخبأة داخل ألواح الصابون في حماة.
وبالمثل، في السادس من سبتمبر/أيلول 2022، ورد أن قوات النظام السوري استولت على 24 كيلوغرامًا من مسحوق الكبتاغون المصبوب على شكل أطباق حُمّص. إذ أفاد النظام أنه لإنشاء تلك الأطباق، قام المهربون بسحق حبوب الكبتاغون وحولوها إلى مسحوق لتشكيل "أطباق تشبه الفخّار مغطاة بمادة لاصقة بنية". ولاقت تلك المصادرة صدى واسعًا ليس فقط من قبل مواقع وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة النظام، ولكن أيضًا من قبل وسائل إعلامية إقليمية وعالمية، نظرًا للطابع الإبداعي للقصة. ومع ذلك، فإنه لا يوجد ما يثبت صحة تلك الرواية أو إمكانية تطبيقها.
كما قال الدكتور كرم شعار في حديثه لـ “مسبار” أن خبراء الكيمياء وعلماء السموم أخبروا مؤلفي التقرير إن طبيعة الكبتاغون لا تسمح بسحقه وإعادة تشكيله بهذه الطريقة، إذ إن “بودرة” الكبتاغون لا يمكن أن تحافظ على تماسكها لدرجة صنع أطباق منها.
النظام السوري ينفي إنتاج الكبتاغون
وجد تقرير نيولاينز أن الرواية الأكثر اتساقًا داخل المؤسسات الحكومية السورية هي ادعاء عدم تصنيع المخدرات في المناطق التي يسيطر عليها النظام. وهذا ما أثبته تحليل إبلاغات وكالة سانا للأنباء، فمن بين 612 مقالة على موقع الوكالة تغطي المخدرات من 2015 إلى 2022، أشارت مقالتان فقط إلى وجود إنتاج مخدرات داخل المناطق الخاضعة للنظام، وكلاهما يناقش تصنيع الحشيش وليس الكبتاغون؛ وهذا يعكس الرواية الرسمية للنظام السوري القائلة بعدم وجود تصنيع للكبتاغون في مناطق سورية التي يسيطر عليها النظام.
وفي عام 2019، قال اللواء حسام عازر، مدير مكتب اللجنة الوطنية لشؤون المخدرات، إن "موقع سورية الجغرافي جعلها ممرًا إلزاميًا بين دول الإنتاج ودول الاستهلاك… والجمهورية العربية السورية بلد عبور حتى الآن، ولا يوجد فيها تصنيع للمخدرات أو زراعتها".
وعلى الرغم من ادعاء عازر، تم الإبلاغ عن 15 منشأة رئيسة لإنتاج الكبتاغون على الأقل، في المناطق التي يسيطر عليها النظام، بواسطة تحقيقات صحفية استقصائية أو دراسات وتقارير مراكز الأبحاث وحكومات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، مع أدلة كافية على دور مؤسسات الدولة وأقارب الرئيس، مثل ماهر، سامر، ووسيم الأسد الذين يلعبون أدوارًا مركزية في عمليات تصنيع وتهريب الكبتاغون.
وقد تكرر هذا الادعاء في سبتمبر 2022، عندما صرّح مدير إدارة مكافحة المخدرات السورية، العميد نضال جريج، بأن حملة مكافحة المخدرات التي شنها النظام السوري أدت إلى اعتقال تجار المخدرات ومصادرة كميات كبيرة، زاعمين أن الجزء الأكبر من هذه الاعتقالات وعمليات المنع كانت في “مناطق حدودية” أو "مخابئ سرية" كانت تمر عبر سورية، ولم تكن خارجة من البلاد.
النظام السوري يربط تجارة الكبتاغون بجهات خارجية
قبل ظهور أدلّة على مشاركة النظام السوري في إنتاج الكبتاغون وتهريبه، كانت تجارة الكبتاغون مرتبطة بجهات فاعلة غير حكومية متورطة في الحرب الأهلية السورية. وفي ذروة الحرب، ربطت كثير من الوسائل الإعلامية تجارة المخدرات مثل الكبتاغون بالمنظمات الجهادية مثل تنظيم داعش، على الرغم من محدودية الأدلّة على الإنتاج بين شبكات التنظيم على نطاق واسع.
واستمر النظام السوري وشركاؤه في نشر هذه الرواية منذ اندلاع الصراع، مطلقين الاتهامات بتهريب المخدرات واستهلاكها ضد أعضاء المعارضة السورية والمنظمات الإرهابية النشطة في البلاد. كما بنى النظام رواية مفادها أن الاتجار بالمخدرات مستمرّ بشكل أساسي في مناطق خارج سيطرته المباشرة، يغذيها عدم الاستقرار المحلي والحاجة إلى إيرادات بديلة.
على سبيل المثال، قال مندوب سوريا الدائم لدى مكتب الأمم المتحدة في فيينا، السفير حسن خضور، في ديسمبر/كانون الأول 2022 في الدورة الحادية والثلاثين للجنة منع الجريمة والعدالة الجنائية، إن الشبكات الإرهابية والإجرامية هي العوامل الرئيسة وراء تصاعد تهريب المخدرات، متهمًا "الدول المتورطة في جلب الإرهاب إلى سورية"، باستخدام تجارة المخدرات غير المشروعة كأداة لتمويل أنشطتها.
وقد ردد مسؤولون سوريون آخرون هذا الرأي، مثل السفير السوري لدى روسيا، رياض حداد. ففي خطاب ألقاه في يونيو 2021، ادعى حداد أن هناك زيادة طفيفة في وجود المخدرات في الأراضي "التي يسيطر عليها الإرهابيون" في سورية، حسب تعبيره، وذكر أن الجيش العربي السوري قام بعدد من عمليات تطهير المخدرات في المناطق خارج سيطرة النظام.
ادعاءات حول أحكام متعلقة بالمخدرات
مع زيادة الحكومة السورية في الإبلاغ عن المضبوطات المتعلقة بالمخدرات، زادت أيضًا تقاريرها عن الأفراد المعتقلين ذوي الصلة بجرائم تتعلق بالمخدرات. إذ تشير البيانات التي جمعها باحثو معهد نيولاينز من موقع وكالة سانا للأنباء إلى زيادة قدرها 18 ضعفًا في الاعتقالات المتعلقة بالمخدرات منذ عام 2019.
ومع ذلك، يشير مؤلفو التقرير إلى أن تلك الأرقام تتطلب مزيدًا من التدقيق والتقصّي، وذلك بسبب الحجم الهائل لتلك الاعتقالات مقارنة بعدد السكان في سوريا. فعلى الرغم من إنكار الدولة المستمر لأي إنتاج محلي، تشير بيانات سانا إلى أن سلطات إنفاذ القانون السورية تقوم علنًا بمطاردة التجار والمهربين الذين يقومون بتهريب كميات صغيرة من المخدرات.
وادعى جريج أنه خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2022، كانت هناك 6625 جريمة متعلقة بالمخدرات، واعتقال 851 ألفًا و621 فردًا متورطًا فيها، وهو عدد يصل إلى ما يقرب من 15 في المئة من السكان البالغين في سوريا، بينما تشير أخبار وكالة سانا المجمّعة من قبل باحثي نيولاينز والمتعلقة بإلقاء القبض على متهمين بتجارة المخدرات إلى أنه تم القبض على 343 شخصًا فقط خلال تلك الفترة.
الأهم من ذلك أن الاعتقالات الجماعية المزعومة لم تستهدف أيًّا من زعماء المخدرات المعروفين الذي ما زالوا يتحركون ضمن مناطق سيطرة النظام في سوريا بحرية مطلقة، مثل سامر كمال الأسد أو وسيم الأسد أو نوح زعيتر، وهذا ما يؤكد مرة أخرى عدم استعداد النظام لكبح إمدادات المخدرات إلى بقية المنطقة، بحسب التقرير.
المصادر:
Observatory of Political and Economic Networks
Newlines Institute for Strategy and Policy
Newlines Institute for Strategy and Policy
اقرأ/ي أيضًا:
فيديو ضبط أقراص مخدرة بحوزة مسافرين على الحدود السعودية قديم