عقب قصف مستشفى الأهلي المعمداني في غزة مساء الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول، تبرأت إسرائيل على الفور من الحادثة، وألقت بتصريحات متناقضة، انتهت باتهامات لفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. وادّعت وسائل إعلام وحسابات إسرائيلية، أنّ القصف سببه صاروخ أطلقته حركة الجهاد الإسلامي، فشل بُعيد إطلاقه وأصاب عن طريق الخطأ موقف سيارات تابع للمستشفى.
وفي صباح اليوم التالي، تحدث الناطق باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري في مؤتمر صحفي لوسائل الإعلام، وقال إن "الجيش أنهى مراجعة ما بعد العملية وأكد أن حركة الجهاد الإسلامي مسؤولة عن الضربة" على مستشفى الأهلي في غزة. وأضاف: "لقد قمنا بمراجعة فورية لجميع الفروع ذات الصلة في جيش الدفاع الإسرائيلي".
وبعد ذلك، قال: "في الساعة 6:15 مساءً، أطلقت حماس وابلاً من الصواريخ على إسرائيل". وأضاف أنه في الساعة 6:50 مساءً، أطلقت حركة الجهاد الإسلامي رشقة من 10 صواريخ من مقبرة قريبة من المستشفى. علاوة على ذلك، في الساعة 6:59 مساءً، وردت أنباء عن انفجار في المستشفى. وأضاف أنه "وفقًا لمعلوماتنا الاستخبارية، فإن حماس راجعت التقارير، وأدركت هي نفسها أن ذلك حدث بسبب فشل صاروخ الجهاد الإسلامي في إطلاقه، وقررت إطلاق حملة إعلامية عالمية لإخفاء ما حدث".
وأكد مرة أخرى في معرض حديثه على أن صاروخ الجهاد الإسلامي أُطلق من مقبرة بجوار المستشفى وأصاب ساحة انتظار السيارات بجوار المستشفى والتي من المحتمل أن تكون بها ذخائر إرهابية، مما تسبب في مزيد من الأضرار، بحسب هاغاري. مؤكدًا أنه لم تكن هناك نيران إسرائيلية من البر أو البحر أو الجو يمكن أن تصيب المستشفى في ذلك الوقت.
وكان مسبار نشر تحليلًا، أمس الخميس، حول الرواية الهشة التي تقدمها إسرائيل والأدلة التي تشير إلى تورطها في استهداف المستشفى المعمداني في غزة.
مقطع صوتي نشرته حسابات إسرائيلية
بعد المؤتمر الصحفي بحوالي ساعتين، نشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي وصفحة الجيش الإسرائيلي وعدد من الحسابات الإسرائيلية الرسمية الأخرى، مقطعًا صوتيًا زعموا أنه لمكالمة بين ناشط سابق في حماس وبين أحد سكان قطاع غزة، تحدثا خلالها عن عملية إطلاق صواريخ فاشلة نفذتها حركة الجهاد الإسلامي من المقبرة التي تقع خلف مستشفى المعمداني، ما اعتبرته دليلاً على "إدراك حماس للحقيقة" ومحاولتها إلصاق التهمة بإسرائيل.
ويُظهر المقطع التسجيلي أحدهما يقول للآخر "بس بقلك لأول مرة بنشوف صاروخ زي هيك والشظايا هذه فبقلك تبع الجهاد صواريخ الجهاد الإسلامي يعني". بينما يسأل الآخر ويقول "إنه من عنا هذا؟"، ويجيب الأول عليه "شكله من عنا اه… بحكو إنه الشظايا محلية مش زي شظايا إسرائيل". ويسأل الآخر "سبحان الله من عنا ما لاقاش غير ينفجر في المستشفى". "بتلاقيهم مطلعينو من المقبرة اللي وراء المستشفى المعمداني ونزل عندهم".
توقيت نشر المقطع بعد تقديم إسرائيل روايتها
هناك عددٌ من العوامل التي تُثير الشكوك حول صحة المقطع الصوتي المُسجل الذي نشرته إسرائيل، أولها هو توقيت نشره. إذ نُشر المقطع بعد 17 ساعة من وقوع المجزرة في مستشفى المعمداني، وبعد ساعتين من تقديم الرواية الإسرائيلية حول إطلاق صاروخٍ فاشل من قبل الجهاد الإسلامي من المقبرة التي تقع قربه، وهو وقتٌ طويل نسبيًا لتسجيل بهذه الأهمية الاستخباراتية.
كما أنَّ التسجيل كرر ما جاء في الرواية التي وردت على لسان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بعد صدورها إلى الملأ، ولم يقدّم أي تفاصيل إضافية أكثر مما قاله هاغاري سواءً حول ما سبق الحادثة أو ما تلاها، أو بين ردود طرفي الاتصال، كما لو أن الحديث الذي ورد فيه جاء مطابقًا تمامًا لما تحتاجه إسرائيل لتبرئة نفسها.
اللهجة المُستخدمة ليست دليلًا
إضافة إلى ذلك، ووفقًا لملاحظة أحد أهالي غزة الذي تحدث إليه مسبار، فإن اللهجة المُستخدمة في التسجيل قريبة جدًا إلى اللهجة المحلية، إلا أنها تختلف، ولو لشيء بسيط، عن طريقة نطق أهالي غزة. وقد يرجع ذلك إلى أن المقطع المسجل قام بها اثنان ممّن يُدعون بـ "المستعربين".
والمستعربين هم وحدة خاصة في جيش الاحتلال الإسرائيلي يرتدي جنودها ملابس عادية يتقنون اللغة العربية، ويخوضون تدريبات عديدة لإتقان مختلف اللهجات الفلسطينية، بما فيها لهجات أهل القرى والبدو، أغلب أفرادها من اليهود الشرقيين، وهو ما يعني أن ملامحهم تكون عربية ويخضعون لتدريبات شاقة ليتصرفوا ويفكروا كالفلسطينيين فلا يستطيع الفلسطينيون تمييزهم لشدة تنكرهم كالعرب، لذا يسمون بالمستعربين.
وبحسب حديث الخبير في الشؤون الإسرائيلية أنطوان شلحت لموقع الجزيرة نت، فإن أول وحدة مستعربين أُنشئت في عام 1942 وحتى 1950، ويضيف قائلاً إن "هذه الوحدة هي جزء من سرايا النخبة المسماة البالماخ، وهي بدورها تتبع مليشيا الهاجاناه التي أصبحت فيما بعد نواة الجيش الإسرائيلي".
المهام الأساسية للمستعربين
وتشمل المهام الرئيسية الموكلة إلى المستعربين جمع معلومات استخبارية واعتقال فلسطينيين، والقيام بـ "عمليات لمكافحة الإرهاب" وفق تعريف الإسرائيليين. كما يزداد نشاطهم في المظاهرات الفلسطينية التي تخرج في أحياء الضفة الغربية، إذ يقتحموها في البداية كمتظاهرين فلسطينيين، قبل أن يستلّوا أسلحتهم ويشاركوا في استهداف المتظاهرين بتعليمات من الجيش.
ومن الأمثلة على إتقانهم للهجات الفلسطينية المحلية، ذكرت المصورة رشا حرز الله لصحيفة العربي الجديد، أنه "كان هناك شابان، في المدخل الشمالي لحيّ البيرة، الأول يرتدي كوفية والآخر قناعًا أسود، ووقعا على الأرض. صاحب الكوفية كان يحاول السيطرة على الآخر بالاتكاء عليه بقوة وتثبيته. اعتقدت أنا وزملائي أنهم متظاهرون وأن أحدهم أصيب ويحتاج مساعدة فيتكئ على جسد زميله ليساعده على الهرب معًا. بعد ثوان تمكن من يرتدي الكوفية من السيطرة على صاحب القناع ووضع المسدس على رأسه ووجه الكلام لنا: (ما حدا يقرّب). كان يلفظ حرف القاف بـ(الغين) كما يفعل البدو أو بعض اللهجات الفلسطينية الأخرى".
حديث بالغ الحساسية لأن يُحكى في مكالمة هاتفية
وبالعودة إلى التسجيل، من الملاحظات التي تثير الشكوك حوله هي طبيعة الحديث الدائر فيه. ففي ظل التوتر الأمني الحاصل في قطاع غزة هذه الأيام، يبدو من المستبعد أن تُنقل معلومات بهذه الحساسية من خلال مكالمة هاتفية عادية، في ظل سيطرة إسرائيل المُطلقة على الاتصالات في القطاع.
على الرغم من وجود فقرتان في اتفاقية "أوسلو 2" تحدّثت عن منح الجانب الفلسطيني صلاحيات امتلاك قطاع اتصالات وإنترنت وشبكات بث أخرى، إلا أن ذلك بقي مقيدًا بسبب انعدام قدرة الفلسطينيين على إتمام تشكيل البنية التحتية لشبكة مستقلة في ظل واقع السيطرة الإسرائيلية على الجغرافيا الفلسطينية وحركة النقل والمعابر والحدود في كامل فلسطين، ما يعني عدم التمكن من إقامة الشبكة خارج تبعيّة وسيطرة الاحتلال إن كان في بنيتها التحتية أو السيطرة على جوهر عملية الاتصالات ونقل المعلومات من خلال هذه الشبكة.
عدا عن التقييد الذي أوردته الفقرة الثانية من الاتفاقية، إذ جاء فيها "وسوف تستخدم الأجهزة فقط عند تشغيل الشبكة الفلسطينية المستقلة" والذي يقيد الجانب الفلسطيني بالبقاء معتمدًا على اتصالات الاحتلال الإسرائيلي في إتمام توفير هذه الشبكة وخدماتها إلى حين تحقيقه لشبكة اتصالات وانترنت مستقلة، والتي لن تتم كون الاحتلال لم يتح للفلسطينيين ما يوصلهم لهذه الشبكة بشكل مستقل، بل وضعهم في مساحة يبقوا فيها مرهونين لاستقدام هذه الشبكة وخدماتها من الاحتلال ويبقى تحت تطويقه ورقابته من خلالها.
كذلك على صعيد الإنترنت، تُحاصر الأدوات "الإسرائيلية" الفضاء الرقمي في غزة بمنظومة متعددة الطبقات تحكم عملية تدفّق الانترنت إلى القطاع، وتحرص على نزعه فعاليته الكاملة، والرقابة على العمليات التي تجري من خلاله.
هذا ينطبق أيضاً على الشكل اللوجستي لعملية تدفق الانترنت لغزة. يظهر لنا من خلال مجموعة حوادث وقعت في سنوات سابقة على حدود القطاع كيف يُطبِق الاحتلال بحصاره على شبكة الإنترنت في قطاع غزة، وكيف أنه يسيطر على تدفق المعلومات عبر هذه الشبكة. وهذه معلومات مفتوحة المصدر ومتاحة للعامة، لذا من الأجدر أن يكون أعضاء حركة حماس على علمٍ بها، وأن لا يشاركوا معلوماتٍ بالغة الحساسية كالتي وردت في التسجيل الذي نشرته إسرائيل عبر مكالمة هاتفية.
لا دليل في التسجيل على رؤية الوقائع
العامل الأخير الذي يثير الشكوك حول دقة التسجيل المنشور واعتماده كـ "دليل" لتورط فصائل المقاومة الفلسطينية في حادثة قصف المستشفى الأهلي المعمداني هو طريقة تقديم المعلومات الواردة فيه. إذ اعتمد فيه طرف الاتصال الأول صيغة النقل عن الغائب في حديثه للآخر.
قال الطرف الأول "بيقولّك أول مرة بيشوفوا صاروخ زي هيك والشظايا هذي فبيقولك الصواريخ تبع الجهاد الإسلامي يعني"، ومن ثم يتابع "بحكو إنه الشظايا تبعة الصاروخ محلية مش زي شظايا إسرائيل". فيما لم يذكر أنه رأى أيًا مما قاله بعينه. وبالنظر إلى توقيت نشر المقطع بعد ساعات من تصدير الرواية الإسرائيلية للعالم، بالإضافة إلى عدم وجود ما يشير إلى أن الطرفين هما أعضاء من حركة حماس (سوى ادعاء إسرائيل أنهما كذلك)، فإن المقطع لا يعني سوى نقل ما قالته الرواية الإسرائيلية، في حال كان صحيحًا. ولا يقدّم أي دليل تورط أو إدراك من قبل المقاومة.
وتجدر الإشارة إلى أن المستشفى الأهلي العربي المعمداني، الذي شهد استهدافًا يوم الثلاثاء، يعد من أشهر المنشآت الصحية في قطاع غزة، إذ تأسس قبل أكثر من مئة عام في سنة 1919، وكذلك واحدًا من أكبر المستشفيات بأحد عشر قسمًا مستقلًا، فهو معروفٌ لمعظم سكان القطاع. لذا، من المتوقع أن يكون أعضاء حركة حماس، المسيطرة على قطاع غزة منذ 16 عامًا على دراية بموقع واحد من أشهر مراكز غزة الخدمية، بخلاف ما ورد في المقطع؛ والذي بدى وكأنه دليلاً صوتيًا لمن لا يعرفون جغرافية المنطقة.
اقرأ/ي أيضًا:
مجزرة مستشفى المعمداني: رواية هشة تقدمها إسرائيل وأدلة تشير إلى مسؤوليتها
الرواية الإسرائيلي حول المستشفى المعمداني: من التبني إلى الإنكار