سبق أن نشر مسبار تحقيقات عدة تناولت انحياز الصحف الغربية لصالح الرواية الإسرائيلية مع بداية الحرب على غزة، من ناحية التغطية أو توظيف المصطلحات الإعلامية. مؤخرًا أظهر تحليل موّسع أجرته "ذا إنترسبت" الإخبارية أنّ صحفًا أميركية كبرى انحازت بشكل واضح إلى الرواية الإسرائيلية في الأسابيع الستة الأولى من الحرب على غزة.
ووفقًا للتحليل الذي أُجري في الفترة ما بين السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحتى الرابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أظهرت صحف مثل ذا نيويورك تايمز وواشنطن بوست ولوس أنجليس تايمز، تحيزًا ثابتًا ضد الفلسطينيين، في التغطية الإعلامية للحرب.
ورأى التقرير أنّ وسائل الإعلام المطبوعة، التي تلعب دورًا مؤثرًا في تشكيل جزء من الرأي العام في الولايات المتحدة حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لم تُعطِ اهتمامًا كافيًا للمعاناة التي يعيشها المدنيون في قطاع غزة، وخاصة عند تغطية أحداث واضحة جدًا كالحصار الإسرائيلي للقطاع، والقصف الذي يتعرض له سكان غزة خاصة الأطفال، وكذلك أعداد الضحايا من الصحفيين الفلسطينيين.
ذا إنترسبت تحلّل أكثر من ألف مقال عن الحرب الإسرائيلة على غزة
حللت "ذا إنترسبت" أكثر من ألف مقال حول الحرب الاسرائيلية على غزة، اختِيرت من صحف رئيسية مثل ذا نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ولوس أنجليس تايمز. ومنها رُصِدت استخدامات لبعض المصطلحات الرئيسية والسياق الذي استخدمت فيه. أظهرت نتائج التحليل عدم توازن واضح في تغطية الأخبار حول الإسرائيليين والشخصيات المؤيدة لإسرائيل، مقابل الفلسطينيين والأصوات المؤيدة للفلسطينيين، مع توظيف متحيّز للمصطلحات الإعلامية يميل إلى صالح السردية الإسرائيلية على حساب السردية الفلسطينية.
التغطية غير المتوازنة لأعداد الضحايا
أكّد تحليل "ذا إنترسبت" ما رصده مسبار سابقًا حول تجاهل أعداد القتلى الكبير من الفلسطينيين، مقابل التركيز على القتلى الإسرائيليين، وذلك في صحف ذا نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ولوس أنجليس تايمز. فبالرغم من تجاوز عدد القتلى الفلسطينيين لعدد القتلى الإسرائيليين بشكلٍ كبير، إلا أنه عند ذكر هذه الصحف لأخبار القتلى تبيّن أن كلمة “إسرائيلي" أو "إسرائيل" تظهر أكثر من كلمة "فلسطيني" أو ما يماثلها. كما أظهرت البيانات بأنه مقابل كل قتيلين فلسطينين، يُذكر الفلسطينيون مرة واحدة، بينما مقابل كل قتيل إسرائيلي، يُذكر الإسرائيليون ثماني مرات.
تصوير أن الإسرائيليين يتعرضون إلى مذبحة وليس الفلسطينيون
اتبعت الصحف الكبرى أسلوبًا تحريريًّا ذا طابع عاطفي عند تسليط الضوء على القتلى الإسرائيليين، عكس ما يجري عند ذكر القتلى الفلسطينيين، إذ يظهر تمييز واضح في توظيف التعبير اللغوي ليتوافق مع الرواية الإسرائيلية. على سبيل المثال، استُخدم مصطلح "الذبح" عند وصف القتلى الإسرائيليين بمعدل 60 مرة مقابل مرة واحدة في الجانب الفلسطيني، واستُخدم مصطلح "المجزرة" بمعدل 125 مرة لوصف حوادث القتل التي تعرض لها الإسرائيليون مقابل مرتين فقط لحوادث القتل التي تعرض لها الفلسطينيون.
كما استُخدم مصطلح "مروّع" بمعدل 36 مرة لوصف حوادث قتل الإسرائيليين، مقابل ذكر المصطلح أربع مرات في حوادث قتل الفلسطينيين، وذلك في الصحف الثلاثة ذا نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ولوس أنجليس تايمز.
تجاهل أعداد الضحايا الفلسطينيين من الأطفال والنساء والصحفيين
على الرغم أن الحرب على غزة كانت من أكثر الحروب دموية في التاريخ الحديث بالنسبة لعدد الضحايا من الأطفال، الذي تجاوز 6 آلاف في فترة إجراء التحليل. إلا أنه وحسب النتائج لم تظهر كلمة "أطفال" سوى مرتين في عناوين المقالات وذلك من بين أكثر من 1100 مقال جرى تحليلها، باستثناء مقال واحد نشرته ذا نيويورك تايمز، على الصفحة الأولى في نهاية نوفمبر 2023 وكان بعنوان "ارتفاع وتيرة القتل التاريخية للمدنيين الفلسطينيين"، على الرغم من أن العنوان كان عامًا ولم يتضمن ذكرًا للأطفال أو النساء.
على النحو ذاته كانت الحرب على غزة من أخطر الحروب في التاريخ الحديث بالنسبة للصحفيين، خاصة الفلسطينيين منهم، وكشف مسبار في تحقيق سابق عن الاستهداف الإسرائيلي الواسع الموّجه ضد الصحفيين بينما أظهرت نتائج "ذا إنترسبت"، أن كلمة "صحفيين" وما يماثلها من كلمات مثل "المصورين" أو "المراسلين" ظهرت في تسعة عناوين رئيسية فقط، وذلك من بين أكثر من 1100 مقال جرى فحصه، على الرغم من أن ما يقرب من 48 صحافيًا فلسطينيًا كانوا قد قتلوا جراء القصف الإسرائيلي خلال فترة إعداد تحقيق "ذا إنترسبت"، وهذا ما يعدّ مؤشرًا واضحًا على غياب مجموعتين استحقت عادةً التعاطف من قبل وسائل الاعلام الغربية عند تغطية الأخبار.
المقارنة بين التغطية الإعلامية الغربية لغزو أوكرانيا والحرب على غزة
أجرت "ذا إنترسبت" مقارنة مع التغطية الإعلامية للحرب الروسية على أوكرانيا، وأظهرت نتائجها أنه وبالرغم من أن عدد الأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا في الأسبوع الأول من الحرب على غزة، كان أكبر مقارنة بعدد الأطفال الذين قتلوا خلال العام الأول من غزو روسيا لأوكرانيا، إلا أن صحف ذا نيويورك تايمز وواشنطن بوست ولوس أنجليس تايمز، نشرت قصصًا شخصية ومؤثرة تسلط الضوء على مأساة الأطفال خلال الستة أسابيع الأولى من حرب أوكرانيا، وهو ما لم يحصل في حالة غزة إلا خلال استثناءات نادرة وبشكلٍ غير مباشر.
تمامًا كما كان الحال مع الأطفال، ركزت الصحف الثلاث على المخاطر التي تعرض لها الصحفيون في حرب أوكرانيا، إذ نشرت مقالات عدة وثقت فيها الانتهاكات ضدهم في أول ستة أسابيع بعد غزو روسيا، على الرغم من أن ستة صحفيين كانوا قد قتلوا في الأيام الأولى من حرب أوكرانيا، مقارنة بـ 48 صحفيًّا قتلوا في الستة أسابيع الأولى من القصف الإسرائيلي على غزة حسب الأرقام التي عرضتها "ذا إنترسبت".
تحيّز كمّي ونوعي ولغة إعلامية مضللة
تقول "ذا إنترسبت" إن هنالك تحيّزًا نوعيًّا إلى الإسرائيليين عند الإشارة للقتلى الأطفال، فمثلًا نشرت صحيفة لوس أنجليس تايمز تقريرًا في 13 أكتوبر 2023 ذكرت فيه: "أعلنت وزارة الصحة في غزة أن 1799 شخصًا قتلوا بينهم أكثر من 580 شخصًا تحت سن الـ 18 و351 امرأة، وقتل في هجوم حماس أكثر من 1300 شخص في إسرائيل، بينهم نساء وأطفال". والمفارقة أن الصحيفة أشارت إلى القتلى الإسرائيليين الأطفال بينما أشارت إلى الفلسطينيين الأطفال باعتبارهم أشخاص ما دون 18 عامًا، ما يعدّ تحيّزًا نوعيًّا يخفي ذكر الأعداد الهائلة من القتلى الأطفال الفلسطينيين.
تجنب ذكر الأطفال والنساء عند تغطية المفاوضات وعمليات تبادل الأسرى
سبق لمسبار أن أعد تحقيقًا حول تجاهل وسائل الإعلام الغربية ذكر الأطفال عند الحديث عن الأسرى الفلسطينيين. على النحو ذاته كشفت "ذا إنترسبت" وجود تجاهل متكرر في الصحف الثلاث للإشارة إلى أن هنالك أطفالًا فلسطينيين أسرى ضمن صفقات التبادل. وعلى سبيل المثال أشارت ذا نيويورك تايمز في تقرير لها إلى أنّ "نساء وأطفال إسرائيليين"، تم تبادلهم مقابل ما قالت إنه "نساء وقاصرين فلسطينيين" .
وفي تقرير أعدته ذا واشنطن بوست، بتاريخ 21 نوفمبر/تشرين الثاني من العام الفائت، وذكرت فيه اتفاق الهدنة الإنسانية في غزة وعملية تبادل الأسرى، لم يأتِ فيه ذكر للنساء والأطفال الفلسطينيين إطلاقًا، وجرى صياغة فقرة مناقشات تبادل الأسرى ضمن التقرير على الشكل التالي "صرح الرئيس بايدن في بيان ليلة الثلاثاء بأن هناك اتفاقًا لإطلاق سراح 50 امرأة وطفلًا كانوا محتجزين كرهائن من قبل حماس في غزة، مقابل 150 سجينًا فلسطينيًا احتجزتهم إسرائيل"، إذ تجاهل النص تمامًا ذكر النساء والأطفال الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
تغطية غير متوازنة لخطاب الكراهية في الولايات المتحدة
عند مراجعة خطاب الكراهية في الولايات المتحدة الذي انتشر عقب الحرب الإسرائيلية على غزة، وجد تحليل "ذا إنترسبت" أن الصحف الكبرى الثلاث أولت اهتمامًا بالهجمات المعادية للسامية مقارنةً بالحملات ضد المسلمين، وبشكل عام، كان هناك تركيز غير عادل على العنصرية تجاه الشعب اليهودي مقارنةً بالعنصرية تجاه المسلمين والعرب، أو أولئك الذين ينظر إليهم على هذا النحو. وخلال فترة تحقيق "ذا إنترسبت"، ذكرت الصحف الثلاث "معاداة السامية" أكثر من "كراهية الإسلام" بمعدل 549 مرة مقابل 79.
على الرغم من حدوث العديد من حالات معاداة السامية وحوادث العنصرية تجاه المسلمين خلال فترة التحقيق، إلا أن 87 في المئة من الإشارات في الصحف حول الحوادث تتعلق بمعاداة السامية، مقابل 13 في المئة من الإشارات حول كراهية الإسلام. وسبق لمسبار أن كشف في تحقيق عن وجود تلاعب في تقارير رابطة مكافحة التشهير الأميركية والتي ركزت في إحصاءاتها لحوادث الكراهية على هجمات معاداة السامية من خلال عرض أرقام مضللة حول نسبة حوادثها مقابل تجاهل حوادث الكراهية ضد الفلسطينيين والعرب.
فشل الصحف الكبرى في تقديم تغطية إعلامية عادلة حول الحرب على غزة
استنتج تحليل "ذا إنترسبت" بأن عمليات القتل الواسعة التي تنفّذها إسرائيل ضد المدنيين في غزة لا تحظى بتغطية عادلة، سواء من حيث النطاق أو الاهتمام العاطفي كما هو الحال تجاه الإسرائيليين اللذين قتلوا يوم 7 أكتوبر 2023.
وحسب التحليل فإن التغطية تصوّر حماس أنها تنفّذ عمليات قتل عشوائية بدون هدف وكجزء من استراتيجية وعقيدة الجماعة، في حين يجري تغطية مقتل الفلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي كسلسلة من الأخطاء الفردية، وذلك رغم وجود أدلة كثيرة تثبت وجود نيّة متعمدة لدى إسرائيل لقتل المدنيين وإلحاق الضرر بممتلكاتهم، مما يعكس فشل الصحف الثلاث الكبرى في تغطية أخبار الفلسطينيين بشكل عادل وإنساني.
وختم التحليل بأنّ استطلاعات الرأي الجديدة تظهر أن هنالك تحولًا بين الديمقراطيين من ناحية التعاطف مع الفلسطينيين وعدم تصديق الرواية الإسرائيلية، مع وجود اختلافات واسعة في التعاطف حسب العمر ومصدر الخبر، إذ يميل الأشخاص الأصغر سنًّا للحصول على المعلومة حول الحرب في غزة من وسائل التواصل الاجتماعي خاصة منصات إكس وتيك توك ويوتيوب. بينما يحصل الأميركيون الأكبر سنًّا على أخبارهم من وسائل الإعلام المطبوعة والقنوات الفضائية التقليدية.
وتؤثر التغطية المتحيزة في الصحف الكبرى والأخبار التقليدية على التصورات العامة حول الحرب، وتؤدي لرؤية مشوهة ومضللة للأحداث. يذكر أن هنالك تحقيقًا آخر نشره فريق "ذا كولمن"، حول التغطية المتحيزة للقنوات التلفزيونية الأميركية للحرب على غزة والذي أظهر فارقًا أكبر في التحيز لناحية الإسرائيليين مقارنةً بالتحيز نحوهم في التحليل الذي أجرته "ذا إنترسبت" حول الصحف المطبوعة.
وتستمر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذُ السابع من أكتوبر 2023، والتي أسفرت عن مقتل 23357 شخصًا وإصابة 59410 في آخر إحصائية لوزارة الصحة في غزة، والتي قالت إن الجيش الإسرائيلي ارتكب 14 مجزرة راح ضحيتها 147 قتيلًا و243 مصابًا خلال الـ24 ساعة الأخيرة، مع استمرار استهدافه للمستشفيات والمرافق الصحية فيما قالت منظمة أطباء بلا حدود أن قصفًا إسرائيليًّا طاول مأوى تابعًا لها في خانيونس يضم أكثر من 100 موظف مع عائلاتهم.
اقرأ/ي أيضًا
من مظاهر انحياز وسائل الإعلام الغربية لإسرائيل في تغطية الحرب على غزة
بلا أدلة.. البروباغندا الإسرائيلية تحاول الربط بين حماس وداعش