` `

شبكة حسابات تعتمد أسلوب السخرية من معاناة الفلسطينيين للترويج للدعاية الإسرائيلية

محمود حسن محمود حسن
سياسة
14 مارس 2024
شبكة حسابات تعتمد أسلوب السخرية من معاناة الفلسطينيين للترويج للدعاية الإسرائيلية
تؤثّر السخرية على قدرة الإنسان على معالجة المعلومات بصورة منطقية (Getty)

استخدمت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي استراتيجية دعائية تقوم على استخدام عنصر السخرية من الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، لتمرير مجموعة واسعة من المعلومات المضللة، لوحظ ازديادها بالتزامن مع بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. 

تخفي المنشورات الساخرة أحيانًا تزويرًا متعمّدًا للوقائع، وتعمل كأداة لتمرير رسائل تساهم في تبرير العنف وتأجيج خطاب الكراهية. وتلقى هذه المنشورات تفاعلًا واسعًا من قبل مجموعة من المستخدمين، يُظهر تفاعلهم أحيانًا تنسيقًا منظمًا وأسلوبًا متشابهًا في استخدام الرموز التعبيرية الضاحكة أو التعليقات الساخرة على مشاهد الدمار والعنف الذي خلفته الحرب الاسرائيلية على غزة، مما يجعل هذا الأسلوب شكلًا خطيرًا من أشكال الترويج للمعلومات المضلّلة.

توظيف اللغة الساخرة كأداة في التضليل

تنشط على مواقع التواصل الاجتماعي صفحات تشارك بكثافة منشورات ساخرة باللغة العربية حول الفلسطينيين ومعاناتهم، باستخدام خطاب متشابه ومصطلحات تحولت إلى "وسوم" وشعارات كوميدية (ميمز) على وسائل التواصل الاجتماعي. فكما هو الحال مع مصطلح "باليوود" أو "Pallywood"، الذي يمزج بين كلمتي "فلسطين" و"هوليوود"، وجرى توظيفه بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي للتشكيك في صحّة الصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو التي توثق العنف الإسرائيلي أو معاناة الفلسطينيين، وتصويرها على أنها "مسرحيات مفتعلة". تنتشر مجموعة من المصطلحات الأخرى الساخرة من معاناة الفلسطينيين تساهم في خلق صورة مضللة حولهم في الرأي العام.

"الكضية" هو تحوير لمصطلح القضية الفلسطينية، تتداوله حسابات للسخرية من اللهجة الفلسطينية، يراد من خلاله غالبًا تصوير القضية الفلسطينية كقضية خاصة بالفلسطينيين وحدهم، لا تستلزم التعاطف من الشعوب الأخرى. فمثلًا صفحة " الفلسطينيين no context " وغيرها من الصفحات التي تترابط مع بعضها البعض كصفحة "توماس" و"هدى جنات"، تتولى بشكل منظم مشاركة صورة نمطية وساخرة حول الفلسطينيين باستخدام هذه المصطلحات وغيرها. 

وبحسب هذه الصفحات فإن الطعام في غزة متوافر بكثافة ولا مذبحة حقيقية تحصل، ولذا فلا تضامن مستحق مع أهالي غزة. أما الناشطون ممن يدعمون القضية الفلسطينية فيجري تصويرهم كمنافقين ينعمون بالرفاهية ويتسمون باللامبالاة. ويجري شيطنة الفلسطينيين في كثير من الأحيان، فتروج تلك الحسابات إلى أنهم يقابلون كل تعاطف معهم من قبل الشعوب الأخرى "بالخيانة"، وعليه فإنّ دعم قضيتهم هو فعل ساذج لا يصب في مصلحة الدول العربية.

وسم الكضية الفلسطينية

تصيّد بعض التصريحات لخدمة الدعاية المضللة

تتصيد صفحات تنشر باللغة العربية أي تصريحات تصدر من قبل ناشطين فلسطينيين أو مناصرين للقضية الفلسطينية، فتستغلّها إعلاميًّا وتعمل على تصديرها كصورة سلبية عامة للفلسطينيين. 

على سبيل المثال، ما يمكن ملاحظته مرارًا هو استخدام مقطع فيديو عفوي لفلسطيني أو فلسطينية، صُوّر في لحظة غضب وخلال الحرب، وانتقد فيه الدول العربية نتيجة تجاهلها لما يجري في قطاع غزة. وقتئذ تأخذ بعض الصفحات المقطع وتعمل على تضخيم التصريح من خلال الاقتباس الانتقائي، وإرفاقه بتعليقات ساخرة لتصوير أن الصفات أو التصريحات السلبية للفلسطيني التي ظهرت في الفيديو، هي "طبيعة شعب" بأكمله، وليست تصريحات فردية معزولة عن السياق، وهي جزء من عقيدة الجماعة التي يجري تصويرها بأنها تقابل الخير والمعروف بالشتائم ونكران الجميل، مما يُشوّه المعنى الأصلي ويُضفي انطباعات تحريضية مغلوطة ومزيد من الانتشار لخطاب الكراهية.

صورة متعلقة توضيحية

من ناحية أخرى، يعمل هذا الأسلوب الدعائي على اقتناص بعض اللحظات من الحياة اليومية للناس، وغالبًا بمن يرتبطون بالشأن الفلسطيني، ومن ثمّ استخدامها لصناعة مادة مضللة منزوعة من السياق الأصلي للقصة. فعلى سبيل المثال لوحظ تكرار نشر مقاطع فيديو لأشخاص فلسطينيين أو مؤيدين للفلسطينيين وهم يأكلون أو يجلسون في مقهى، وقد يُعاد نشر لحظات قديمة لهم وهم في رحلة مثلًا.

الغرض من هذا الأسلوب الدعائي تحقيق نوعين من الأهداف، الأول هو حجب الصورة الحقيقية للمعاناة التي يتعرض لها الفلسطينيون تحت الضربات الإسرائيلية، وهدف آخر هو تصوير أصحاب هذه التصرفات العادية كأشخاص لا مبالين تجاه ما يحصل في قطاع غزة. 

من ناحية أخرى، تتعمد هذه الصفحات اقتناص الفرصة لتصوير بعض المواقف الطبيعية من الحياة اليومية للناشطين المؤيدين للقضية الفلسطينية، وتضخيمها بغية تعميم صورة مضللة عنهم.

مؤخرًا، نشر حساب "رايموند حكيم" مقطع فيديو يظهر مقدم برنامج "جو شو" يوسف حسين في مقهى عام، ورغم أن حسين كان يشرب الشاي في مقهى عربي إلا أنّ حكيم أرفق المنشور بتعليق " جو صاحب برنامج "جو شو" الذي يقول إن أميركا عدو ويجب مقاطعة المنتجات الأمريكية ها هو في العاصمة واشنطن يأكل ما لذ وطاب من المنتجات الأمريكية ويشرب البيرة.. آخر رواق". يتهم المنشور بدون تقديم أدلة، الإعلامي يوسف حسين باللامبالاة وعدم الانخراط في حملة مقاطعة منتجات الشركات الداعمة لإسرائيل نصرةً لغزة. 

جوشو في مقهى في أميركا وتضليل حول المشهد

في السياق ذاته نشر حساب "توماس"، صورة للصحفية في قناة الجزيرة خديجة بن قنة وهي تصلي، وأرفقت الصورة بتعليق ساخر " خديجة بن قنه مذيعة الجزيرة تؤدي الصلاة في الكدس... بس سؤال لكي يا بنت قنة مع أي معبر دخلتي ومن ختم. على جوازك".

خديجة من قنة تصلي في القدس

الشماتة بمعاناة الفلسطينيين كأسلوب لتبرير العنف

ترتبط الشماتة عادة بالسخرية، فبينما تشير الشماتة إلى الفرح بمصائب الآخرين، تكون السخرية وسيلة فعالة للتعبير عن الشماتة بشكل غير مباشر. وتحاكي بعض الصفحات التي تكتب بالعربية تصريحات المسؤولين الإسرائيليين الذين أظهروا شماتة بما يحصل في غزة، وبرّروا لإسرائيل أفعالها المتمثلة في إلحاق العقاب الجماعي بسكان القطاع منذُ بدء الحرب، مثل تصريح وزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية ماي غولان، عندما قالت في خطاب لها إنها "فخورة" بالدمار الذي أحدثه الجيش الإسرائيلي في غزة.

أسلوب الشماتة أو التشفي من الفلسطينيين وما حصل لهم بطريقة ساخرة، يخلق ذريعة لاستمرار العنف والانتقام الجماعي الإسرائيلي ويصوره كرد فعل طبيعي. على سبيل المثال، كرّس الناشط إيدي كوهين منشورات عدة على صفحته في منصة إكس للشماتة من الفلسطينيين بأسلوب ساخر، وكرر إرفاق كلمة "يا شماتة كوهين" بمنشورات وصور أنقاض مدينة غزة، وبصور أخرى ساخرة لا تخلو من خطاب الكراهية، وأعادت صفحات أخرى مشاركة منشورات كوهين والترويج للنوع نفسه من الخطاب.

الشماتة من معاناة الفلسطينيين

يلعب خطاب السخرية ومن خلفه الشماتة دورًا في نزع الإنسانية عن الضحية وشيطنتها، وقد كشفت ورقة بحثية في علم النفس الاجتماعي لإميل برونو وريبيكا ساكس، أن الشماتة والاستهزاء بالضحية حاضرة بقوة في "السياق الفلسطيني-الإسرائيلي"، وتنتشر بكثافة خاصة تجاه الناس في قطاع غزة، وأن انتشارها لا يدفع إلى تعاطف أقل مع الضحية فحسب، ولكن إلى إضفاء الشعور بالمتعة برؤية الضحية تعاني أيضًا. 

وكان لدمج السخرية مع الخطاب الأيدولوجي دور ملحوظ في زيادة مستوى الاستقطاب على وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيع مع الجرائم الإسرائيلية، وخلق مناخ من الإثارة والاستهزاء بمحنة الفلسطينيين، وخلق بيئة من المعلومات السامة والمضللة على الإنترنت.

تشويه صورة المتعاطفين مع أهالي غزة من خارج القطاع

تشويه صورة الفلسطينيين أو المتعاطفين معهم، خاصة المقيمين في الدول الغربية، هو أسلوب متكرر من التضليل روجت له صفحات عدة تنشر بالعربية، من خلال اعتماد خطاب ساخر يقوم على افتراضات دون أدلة تطعن بنوايا وآراء من يُظهر التأييد والتعاطف مع السكان في قطاع غزة.

تطاول حملة التشويه في هذا السياق المؤثرين العرب بشكل خاص، ممن اتخذوا موقفًا مساندًا للفلسطينيين، إذ شنّت هذه الصفحات هجمات تحريضية مضللة ضد مؤثرين عرب أمثال باسم يوسف ومحمد أبو تريكة. من خلال استخدام خطاب التخوين وتجاهل الصورة الكلية لمبدأ التعاطف والتركيز على ربطه بمكان إقامة الشخص، في تجاهل لسياقات وظروف الأشخاص. ووفقًا لمروجي هذا الخطاب يجري تصوير من يقيم في أميركا أو إحدى دول الخليج أو من يملك سيارة فاخرة على سبيل المثال، بأنه ليس صادقًا في مسألة التعاطف مع أهالي غزة.

فعلى سبيل المثال، حين ظهر اللاعب المصري السابق محمد أبو تريكة في مقطع فيديو، انتقد فيه صمت العالم بشأن جرائم إسرائيل في قطاع غزة، شُنّت عليه حملة تضليل واسعة أشارت إلى تعاطفه يتعارض مع مكان إقامته وحالته المادية، وبالمحصلة هذا المحتوى المضلل يهدف إلى تقليل حجم التعاطف مع الضحية، من خلال تشويه سمعة من يعلن عن دعمه ومساندته للفلسطينيين.

صورة متعلقة توضيحية

ما الذي يجعل السخرية أداة دعائية فعالة؟

تكمن خطورة السخرية في تمريرها للمعلومات المضللة بطرائق تصعُب ملاحظتها. تتحدث في هذا الخصوص، كلير واردل، الأستاذة في جامعة براون، وتؤكد على أنّ إعادة تصدير الأحداث بقالب من السخرية بوصفها أداة فعالة للتضليل في عصر اضطراب المعلومات، فهي توفر تكتيكات استراتيجية لتفادي مدققي المعلومات، وتساهم في زيادة مشاركة الأخبار المضللة. 

ومن ناحية أخرى، تعمل السخرية على إضعاف السياق الأصلي للقصة وتؤدي إلى دفعنا للجوء إلى مزيد من الاختصارات العقلية، التي هي استراتيجيات يمكن أن نميل لاستخدامها لتبسيط فهمنا للأحداث واتخاذ القرارات بسرعة باستخدام معلومات محدودة. 

وبحسب دراسات عدة، فإنّ السخرية تحرّك عواطف عميقة لدى البشر، وهذه العواطف الشديدة قد تؤثر بشكل سلبي على قدرة الأفراد على معالجة المعلومات بشكل منطقي. وأشارت الدراسات إلى أن هناك أدلة واضحة على أن الأشخاص الذين تعرضوا لمحتوى ساخر قد يميلون للإعجاب بناشره، وعليه قد يهملون مراجعة صدقيّة المحتوى بحدّ ذاته. إذ إن تعرّض البشر إلى المعلومات في قالب من السخرية، يقوّض قدرتهم على التعرف إلى المعلومات الخاطئة.

وإلى جانب الصفحات غير الرسمية التي وظفت السخرية والاستهزاء كأدوات لتمرير المعلومات المضللة باللغة العربية حول الحرب على قطاع غزة، كرّس مجموعة من المؤثرين الكوميديين الإسرائيليين حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي منذ بداية الحرب، لتقديم رسائل مؤيدة لإسرائيل باللغة الإنجليزية تحت قناع السخرية وبهدف خدمة آلة الحرب. واتّهمت إسرائيل بتوجيه آراء المؤثرين لصالح روايتها، وبدفع مبالغ على وسائل التواصل الاجتماعي لتشكيل الرأي العام لصالحها. وحسب البيانات المتوفرة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، فقد عرضت وزارة الخارجية الإسرائيلية 30 إعلانًا ممولًا شوهدت ملايين المرات على منصة إكس، وأكثر من 70 إعلانًا آخر على موقع يوتيوب، ووجهت هذه الإعلانات بشكل خاص إلى الجمهور في الدول الغربية.

اقرأ/ي أيضًا

تحايل إسرائيلي على حملات المقاطعة بوضع أسماء بلدان أخرى على منتجات التمور

رغم الأدلة التي تكشف تورطه: الجيش الإسرائيلي يواصل التنصل من مجزرة الطحين

الأكثر قراءة