في الرابع من مارس/آذار الجاري، أصدرت الأمم المتحدة تقريرها الأول حول العنف الجنسي الذي يفترض أنه حدث أثناء الحرب الإسرائيلية الجارية على غزة. وفور إصدار التقرير، تم الاحتفاء به في معظم وسائل الإعلام الغربية السائدة، وبضعة وسائل إعلام إسرائيلية كدليل على ما أصرَّ عليه العشرات من جماعات الضغط والصحفيين الإسرائيليين لعدة أشهر، وهو أن مقاتلي حركة حماس شاركوا في حملة اغتصاب جماعية منظمة أثناء هجومها في السابع من أكتوبر.
لقد غطت العديد من وسائل الإعلام السائدة التقرير ببعض التعديلات اللغوية. على سبيل المثال، أعادت وكالة أسوشيتد برس صياغة مزاعم الاغتصاب في كيبوتس بئيري، والتي نفاها تقرير الأمم المتحدة باعتبارها "لا أساس لها من الصحة" ونفاها مجلس الكيبوتس نفسه كذلك، وقالت إنها "مزاعم اغتصاب لم يمكن التحقق منها بعد".
ولم تكن وكالة أسوشييتد برس وسيلة الإعلام السائدة الوحيدة التي اعتمدت تعديل الصياغات اللغوية. إذ عكس عنوان صحيفة نيويورك تايمز في 5 مارس/آذار أن تقرير الأمم المتحدة كشف عن "الأدلة المطلوبة على الاعتداء الجنسي في الهجوم الذي قادته حماس على إسرائيل"، علمًا أن الأمم المتحدة قالت في بيانها حول التقرير إن فريقها "يرى أن الحجم الحقيقي للعنف الجنسي الذي ارتكب خلال هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول وما أعقبها، قد يستغرق شهورًا أو سنوات حتى يظهر وقد لا يُعرف بشكل كامل أبدًا". ونوّهت أن مهمة مبعوثيها لإعداد التقرير لم تأخذ طابعًا تحقيقيًا.
ولكن بعد انتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي، عدلت الصحيفة عنوانها دون إضافة ملاحظة أو نشر اعتذار ليصبح كما يلي "فريق الأمم المتحدة يجد أسبابًا لدعم التقارير عن العنف الجنسي في هجوم حماس"، والمقصود بـ "تقارير" هنا تقرير الصحيفة الاستقصائي الذي نشرته يوم 28 ديسمبر/كانون الأول الفائت، حول الاعتداءات الجنسية "الممنهجة" يوم السابع من أكتوبر وتعرّض -وما يزال يتعرض- لانتقادات واسعة.
بعثة الأمم المتحدة لم تصل إلى دليل قاطع على حدوث اعتداءات جنسية
باعتراف الممثلة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالعنف الجنسي في الصراعات، براميلا باتن، تم إرسال الفريق فقط بعد "ضغوط" من جماعات الضغط المرتبطة بالحكومة الإسرائيلية، وقضى 15 يومًا في إسرائيل، ويومين فقط في الأراضي الفلسطينية المحتلة بين الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي 1948.
وبينما يقول التقرير إن فريق الأمم المتحدة رفض على وجه التحديد إدراج "الروايات التي جمعتها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، بما في ذلك تلك المتعلقة باستجواب الجناة المزعومين، على الرغم من عرض البعض منها"، فإن مؤلفي التقرير أفادوا بأن "فريق البعثة استفاد من كامل المعلومات بالتعاون مع حكومة إسرائيل"، وأشاروا إلى أنهم لم يتمكنوا من زيارة مواقع هجمات 7 أكتوبر في قاعدة ناحال عوز العسكرية، وكيبوتس بئيري، وموقع مهرجان نوفا للموسيقى، والطريق 232 إلا بدعم من السلطات الإسرائيلية."
علاوة على ذلك، بيّن فريق الأمم المتحدة أنه "عقد عدة جولات من الاجتماعات لمراجعة المعلومات" الواردة من الجيش الإسرائيلي، وجهاز الأمن الإسرائيلي شين بيت، ووحدة التحقيق التابعة للشرطة الوطنية الإسرائيلية في 7 أكتوبر، لاهاف 433. وعقدت اجتماعات أخرى مع الإسرائيليين، بما في ذلك الرئيس يتسحاق هرتسوغ وعدد من الموظفين الإسرائيليين.
ولم يجزم فريق الأمم المتحدة بحقيقة حدوث أعمال اعتداء جنسي في السابع من أكتوبر، وأقرّ أن ذلك "قد لا يمكن أبدًا"، وخلص الفريق إلى أن هناك "أسبابًا معقولة للاعتقاد" بأن العنف الجنسي قد وقع أثناء الهجوم.
وفي حين زعمت الممثلة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالعنف الجنسي، براميلا باتن، أنها وجدت "معلومات واضحة ومقنعة" تفيد بأن العنف الجنسي وقع لاحقًا على الإسرائيليين الذين تم أسرهم في السابع من أكتوبر، إلا أنها رفضت تسمية الضحايا أو الجناة ورفضت تحديد ما إذا كان هناك أي نمط لربط حوادث العنف الجنسي.
وفي مؤتمر صحفي عقب نشر التقرير، شددت باتن على أن المهمة "لم يكن القصد منها أو التفويض لها أن تكون ذات طبيعة تحقيقية"، لكنها أشارت إلى أنه على الرغم من الدعوات المتكررة من الإسرائيليين للمضي قدمًا بها، فإن فريقها لم يتمكن من تحديد مكان ضحية واحدة من ضحايا الاعتداءات الجنسية.
لا حوادث اعتداء جنسي في كيبوتس بئيري
تتعارض المقاطع الواردة في التقرير والتعليقات التي أدلى بها مسؤولو الأمم المتحدة حول طبيعة مهمة الباحثين مع الادعاءات الإسرائيلية، بدلًا من إثباتها. إذ خلص التقرير إلى أنه "في التقييم الطبي القانوني للصور ومقاطع الفيديو المتاحة، لم يتم تحديد أي مؤشرات ملموسة على الاغتصاب".
وأشار الباحثون إلى أنه "بينما قام فريق البعثة بمراجعة مواد رقمية واسعة النطاق تصور مجموعة من الانتهاكات الصارخة، لم يتم العثور على أي دليل رقمي يصور أعمال العنف الجنسي على وجه التحديد في المصادر المفتوحة".
وتشير الأدلة التي وجدها فريق الأمم المتحدة إلى أنه في مناسبة واحدة على الأقل، بذلت السلطات الإسرائيلية قصارى جهدها لتصوير مشهد اغتصاب كاذب. وفي حالة "الفتاة التي تم العثور عليها منفصلة عن بقية أفراد أسرتها، عارية من الخصر إلى الأسفل" في أعقاب الهجوم على كيبوتس بئيري، كتبوا أن "فريق البعثة خلص إلى أن مسرح الجريمة قد تم دفنه وتغييره من قبل فرقة المتفجرات، كما تم نقل الجثث، ما يوضح انفصال جثة الفتاة عن باقي أفراد عائلتها”.
وفي حديثها بعد باتن، قالت كلوي باسزانجر مارناي، رئيسة فريق خبراء الأمم المتحدة المعني بسيادة القانون والعنف الجنسي في حالات النزاع، للصحفيين “في كيبوتس بئيري، فقط للتوضيح، ما وجدناه هو أن هناك ادعاءين نظرنا فيهما ولم نجد أساسًا لهما. وقد تم وصفهما بشكل وافٍ للغاية في التقارير، ويمكن التعرف على تلك الادعاءات لأنها حظيت بتغطية إعلامية كبيرة في الصحافة. أما الباقي فلم نتمكن من التحقق منه. لذا… لا، لم نتمكن من التحقق من أي عنف جنسي في كيبوتس بئيري في هذه المرحلة”.
وتدخلت باتن قائلةً “كان هناك ادعاء بأن هناك أشياء مثل السكاكين تم إدخالها في الأعضاء التناسلية لامرأة… الفريق راجع الصور ولم نجد شيئا من هذا القبيل”. حتى أنها انتقدت منظمة "زاكا"، جماعة "الإنقاذ" الإسرائيلية الأرثوذكسية المتطرفة التي ساعدت في استضافة زيارتها، والتي كانت مسؤولة عن العديد من الادعاءات الزائفة التي اتهمت حماس بارتكابها في السابع من أكتوبر، وأبرزها ادعاء الأربعين رضيعًا مقطوعي الرؤوس.
انتقاد رسمي وإعلامي إسرائيلي للتقرير
تقرير الأمم المتحدة نفسه ألقى باللوم علانية على الحكومة الإسرائيلية لعدم قدرة الفريق على تحديد من قد ارتكب جرائم جنسية مزعومة، مشيرًا إلى أن "عدم إمكانية الوصول والتعاون من قبل السلطات الإسرائيلية مع لجنة التحقيق الدولية المستقلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، على الرغم من طلباتهم في الوقت المناسب للتحقيق في أحداث السابع من أكتوبر وتداعياتها، أدت إلى عدم توفر معلومات من مصادر الأمم المتحدة أو مصادر أخرى تم التحقق منها بشأن العنف الجنسي المرتبط بهجمات ذلك اليوم".
وقد قوبل التقرير بانتقادات من قبل شخصيات إعلامية وسياسية إسرائيلية. إذ قال وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتز يوم صدور التقرير في بيان إنه استدعى سفير بلاده لدى الأمم المتحدة للتشاور بشأن محاولات الأمم المتحدة "التزام الصمت" على تقارير حول العنف الجنسي الذي ترتكبه حركة حماس، وهو ادعاء نفته المنظمة.
وفي مقابلة أجريت في السادس من مارس الجاري، حول تقريرها مع القناة 12 العبرية، هاجمت المذيعة باتن، لأنها لم تصل في تقريرها إلى استنتاج نهائي يفيد بأن حماس مسؤولة عن الاعتداء الجنسي المنهجي على النساء الإسرائيليات، وسألتها "هل لي أن أسأل، لماذا لا نلقي المسؤولية ونلقي اللوم على الفظائع بكل بساطة على مرتكبيها ونقول: حماس هي من فعلت ذلك؟".
وأجابت باتن أن مهمة زيارتها لإسرائيل كانت “فقط لغرض جمع وتحليل المعلومات”، وليس من أجل إسناد الجرائم المزعومة إلى أي مرتكب. فردّت المضيفة ضاحكةً: "من الواضح جداً من فعل ذلك، بعد التحدث مع الناجين الذين عادوا، لم يكن البلجيكيون هم من فعلوا ذلك".
وردت باتن: "أعتقد أن الأمر متروك لحكومتك لمنح حق الوصول إلى الضحايا، وكانت تلك إحدى توصياتي الأولى". في إشارة إلى أن الناجيات الإسرائيليات المفترضات من الاعتداء الجنسي اللاتي لم تتمكن من مقابلتهن خلال زيارتها، ولكنهن موجودات بالتأكيد، وفقًا للحكومة الإسرائيلية.
اقرأ/ي أيضًا:
وسائل إعلام غربية تتجاهل تقريرًا أمميًّا حول العنف الجنسي الذي يمارسه جنود الاحتلال ضد الفلسطينيات
التضليل مرتين: وسائل الإعلام الغربية لم تصحح الادعاءات التي ثبت زيفها عن مستشفى الشفاء