استكمالًا للتقارير التي كشف فيها مسبار حملات دعائية إسرائيلية تتهم الفلسطينيين بفبركة مشاهد موتهم خلال الحرب الجارية على قطاع غزة، يرصد مسبار في هذا التقرير تفاصيل عن حملة دعائية وظفت مجموعة من التقنيات وصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف التشكّيك في صدقية مشاهد موت الفلسطينيين وإصاباتهم خلال الحرب الإسرائيلية على غزة.
غزة وود حملة رديفة لباليوود
بعد مرور شهر على بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ظهرت على منصات التواصل الاجتماعي حسابات جديدة تروج لحملة مختلفة إلى جانب حملة باليوود القديمة. من بين هذه الحسابات، صفحة تحمل اسم غزة-وود (GAZAWOOD).
تعتمد هذه الصفحة في منشوراتها على الترويج لمزاعم تفيد بأن إصابات وموت الفلسطينيين زائفة، وأن المشاهد المصورة ما هي إلا تمثيليات لا أساس لها من الصحة. تستخدم الصفحة أساليب تضليلية متعددة، منها السخرية وأخرى تقنية مثل اجتزاء المقاطع من سياقها، والتعديل عليها بتغيير سرعتها أو زوايا التصوير. وذلك لخدمة الادعاء الرئيسي بأنّ الفلسطينيين يكذبون بشأن الضحايا والمصابين.
ما هي حملة غزة-وود؟
هي سلسلة من الحسابات روّجت لوسم جديد رديف للوسم الساخر "باليوود" أو "Pallywood". باليوود هو مصطلح يجمع بين كلمتي "فلسطين" و"هوليوود" للتشكيك في مصداقية الصور ومقاطع الفيديو التي توثق العنف الإسرائيلي ومعاناة الفلسطينيين، وادعاء أنها "مسرحيات مفتعلة".
أما وسم "غزة وود" فهو مستحدث باستبدال كلمة فلسطين بكلمة غزة، ليؤدي الغرض نفسه. الفرق الأساسي بين الحملتين يكمن في أن "باليوود" حملة قديمة وتروج للدعاية الإسرائيلية منذ 2017 تقريبًا، بينما حملة "غزة وود" حديثة نسبيًا وتزامنت مع الحرب الحالية على غزة.
إعادة تدوير ادعاءات إسرائيلية مضللة
تعمل هذه الصفحات بشكل واضح على إعادة تدوير الادعاءات الكاذبة، والتي سبق تفنيد الكثير منها أو تلك التي تدور حول الادعاءات المشابهة والمضللة بأساليب جديدة. كإعادة تدوير الادعاء الزائف بأن جثث الفلسطينيين تتحرك في الأكفان التي يصورها الناس عند تشييع المتوفين. وذلك بهدف الترويّج لمزاعم أن الفلسطينيين يمثّلون مشاهد الموت ويزوّرون أعداد الضحايا.
يتعمد مشغلو الحملة التلاعب بالمقاطع المصورة للتركيز على زوايا معينة تخدم أغراض التضليل، مثل إخفاء محيط الجثة أو الأشخاص الموجودين حولها، وهي عناصر قد تفسر سبب تحرك الكفن. وتشير هذه التعديلات بشكل واضح إلى زيف الادعاءات، إذ إن استخدام تقنيات مثل التقريب الشديد على الكفن من شأنه التشويش على حقيقة المشهد وتقديم صورة مشوهة. ومن الواضح أن الهدف من التعديلات هو خلق انطباع يخدم السردية المضللة، مع إخفاء الأدلة التي قد تفسر الوقائع بشكل صحيح.
المشهد كاذب انظروا لضحكتهم!
تلجأ الحملة إلى استراتيجية تحويل الانتباه عن الحدث الفعلي ومحاولة تحريف حقيقة ما يجري، من خلال توجيه أنظار المشاهدين إلى تفاصيل جانبية غالبًا ما تكون محيطة بالفيديو، لكنها لا تحمل أهمية تُذكر مقارنة بجوهر الحدث.
من التكتيكات الشائعة التي تتبعها الحملة التركيز على انطباعات الأشخاص المحيطين بالحادث، مثل الضحك أو غيره من المشاعر، بهدف التشكيك في المشاهد والادعاء بأنها مفبركة. ومؤخرًا ثبّت مشغلو الحملة على مقدمة صفحتهم منشورًا لمقطع فيديو وصل التفاعل عليه لآلاف الأشخاص، ويظهر المقطع مشاهد قاسية لشخص يصرخ وهو يعرض أشلاء متفحمة لمقربين له.
عمد مشغّلو الصفحة إلى تسليط الضوء على لحظات وجيزة تُظهر وجوه الأشخاص المحيطين بالشخص المفجوع، دون التركيز على الشخص نفسه، ومشاعر الحزن التي تبدو عليه. وزعموا أن المحيطين بالمشهد يضحكون، إلا أن الربط بين انفعالاتهم التي يصعب تحديد أسبابها بدقة في زمن قصير جدًا وبين حقيقة الحدث الفعلي، وتضخيم أهميتها عن طريق تبطيء المقطع، يُعدّ تضليلًا واضحًا. فبغض النظر عن صحة ما إذا كان الأشخاص المحيطون بالشخص يبتسمون أو يقومون بأي تصرف يبدو أنه يحمل إشارات فرح، فإن ذلك لا ينفي حقيقة وقوع الحدث. فلا ارتباط مباشر بين انفعالات المحيطين ودقة الحدث ودلالاته.
من ناحية أخرى، إن استخدام الظروف المحيطة للتوصل لاستنتاج حول طبيعة الموقف القاسي ليس دقيقًا دومًا، إذ تشير الأبحاث إلى تعقد فهم الظروف والمواقف المحيطة بالصدمة، وهناك أدلة قوية تشير إلى أن ردود فعل الأفراد المحيطين بحدث صادم لا تعكس بالضرورة حقيقة الحدث نفسه.
الدراسات حول الاستجابات للصدمة تؤكد أن الأشخاص يتفاعلون مع المواقف الصادمة بطرق فردية للغاية، وبحسب درجة ارتباطهم بها. فقد يظهر البعض مشاعر تبدو غير متوافقة مع خطورة الحدث، مثل الضحك أو الابتسام، وهذا يمكن أن يُساء فهمه كدليل على أن الحدث غير حقيقي. ومع ذلك، هذه التفاعلات إن وجدت فقد تكون آليات للتكيف أو الانفصال عن الواقع أو نتيجة لمعالجة عاطفية معقدة تحت الضغط.
استخدام المشاهد التمثيلية للطعن بصدقية معاناة الفلسطينيين الحقيقية
توظف حملة غزة وود، تكتيكًا مضللًا يقوم على استغلال المشاهد التمثيلية التي يصورها أشخاص في أماكن مختلفة للتعبير عن معاناة أهل غزة ومساندتهم. ويستخدم التكتيك كوسيلة لتقليل صدقية الأحداث الفعلية التي يتعرض لها المدنيون في غزة. إذ يجمع مشغلو الحملة مقاطع فيديو تمثيلية تحاكي الواقع الفعلي ومشاهد القتل في غزة، ويعيدون نشرها مع إضافة تعليقات ساخرة تهدف إلى جذب المتابعين ونشر الدعاية المضللة.
يُستخدم هذا التكتيك لاستدراج المشاهدين إلى الاعتقاد بأن موت مشاهد المدنيين أو إصابتهم في غزة مفبركة أو مبالغ فيها، وذلك من خلال ربط المشاهد التمثيلية بالحقيقة الميدانية. ولكن في الواقع، المشاهد التمثيلية لا تعكس سوى مبادرات من بعض الأفراد للتعبير عن تضامنهم مع الضحايا، وليست تجسيدًا حقيقًا للوقائع المأساوية التي تحدث في غزة.
هذا الأسلوب الدعائي، ينجح بجذب التفاعل عندما يوّظف السخرية والمشاهد التمثيلية وذلك بعد عزلها عن السياق، وهذا ما تدعمه دراسة أجريت في عام 2022 والتي أوضحت أن السخرية هي أداة فعالة أحيانًا لتقليل صدقية الأحداث الحقيقية وتشويه الواقع. فالسخرية لا تُستخدم للترفيه فقط، ولكن أيضًا كأداة سياسة ولتحريف التصورات العامة، خاصة إذا أسيء فهمها أو قُدِّمت في سياق خاطئ.
كما تستخدم الحملة في دعم مزاعمها مقاطع فيديو مجتزأة من أفلام أو مسلسلات صورت حول فلسطين أو الأحداث في غزة، وتحديدًا تلك التي تصور معاناة المدنيين في مشاهد درامية. إذ تُقتطع مشاهد من هذه الأفلام، وتُقدّم بشكل مضلل، للادعاء بأن الفلسطينيين يفبركون مشاهد الموت والإصابات على أرض الواقع.
على سبيل المثال، في مايو/أيار 2024، رصد مسبار عدة منشورات استخدمت فيها الحملة لقطات تمثيلية للطعن بصدقية مشاهد موت الفلسطينيين. من بين هذه المقاطع، فيديو ادعت الحملة أنه يظهر فلسطينيين يصوّرون مشاهد معاناة داخل مستشفى، وذلك بالتزامن مع قيام امرأة بالضحك أمام طاقم العمل أثناء التصوير. ليتبين أن اللقطات من كواليس مسلسل فلسطيني بعنوان نزيف التراب إنتاج 2024 ولا علاقة للمقطع بمشاهد الموت الحقيقية على الأرض.
تكتيكات نفسية ومؤثّرات لدعم السردية المضللة
تتعمد الحملة استخدام تكتيكات عديدة تقوم على إضافة مؤثرات عدة لدعم هدف تضليل الجمهور، كإضافة مؤثرات صوتية هَزْلِية إلى مشاهد مؤلمة وحقيقية مثل الموت والدمار، يخدم ذلك هدف تقليل أهمية هذه الأحداث في أعين الجمهور وتشويه الرسالة الأصلية للمحتوى. وهذا التلاعب يؤثر بشكل كبير على كيفية تلقي المشاهد للحدث، إذ يمكن أن يحوّل المأساة إلى مشهد أقل أهمية، أو إلى تطبيع العنف وتقليل مستوى التعاطف مع الضحايا.
تكرار مثل هذه المشاهد بشكل ساخر يمكن أن يخلق لدى الجمهور حالة من اللامبالاة أو السخرية تجاه المآسي الحقيقية، مما يغير السردية العامة حول موضوعات خطيرة بالأصل. وعلى سبيل المثال تؤثر الموسيقى التي ترفق في الخلفية على الاستجابة العاطفية للمشاهدين عند مشاهدة محتوى مرئي، وأظهرت دراسة في علم نفس الموسيقى نشرتها جامعة أكسفورد أن المؤثرات الصوتية يمكن أن تغيّر بشكل كبير الاستجابة العاطفية للمشاهدين وتوجههم نحو تفسير مختلف للأحداث.
غزة وود: حملة نشطة ومنظمة مدعومة ماليًا
في إطار مراجعة خلفية الحملة وآلية عملها، لاحظ مسبار نشاطًا مكثّفًا وتنظيمًا محكمًا للحملة والصفحات المرتبطة بها. إذ تنشر الحملة منشورات بشكل مستمر، وأُنشئت صفحات على مختلف منصات التواصل الاجتماعي لها، بالإضافة إلى حجز خوادم وموقع إنترنت يعمل منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023. وقد يحيل هذا السلوك المنظم إلى استراتيجية ممنهجة تهدف إلى التأثير على الرأي العام، مما يعزز من فعالية الحملة وانتشارها في الفضاء الرقمي.
لا يعرف بالضبط إذا ما كان هنالك تمويل رسمي إسرائيلي للحملة، إلا أن بنية عملها تكشف عن موارد ونشاط يحتاج عادةً إلى دعم منتظم وثابت.
في جميع الأحوال تستخدم الحملة أسلوب جمع التبرعات تحت مظلة مؤسسة إسرائيلية تدعى IsraelGives، وهي مؤسسة داعمة لإسرائيل تأسست في عام 2009 وتوفر منصة على الإنترنت تُستخدم لجمع التبرعات ودعم المنظمات في إسرائيل، وتزويد المنظمات الأهلية والإسرائيلية بأدوات تقنية لجمع التبرعات، بما في ذلك إمكانية استقبال التبرعات من جميع أنحاء العالم. والجدير بالذكر أن التبرعات تجمع بشكل لا يكشف عن هوية المتبرعين ولا عن مستقبلي التبرعات، إذ يدير حملة جمع التبرعات على الموقع المذكور شخص يستخدم اسمًا مستعارًا هو David Cohen.
الجيش الإسرائيلي يسعى للتغطية على المجازر والانتهاكات
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يسعى الجيش الإسرائيلي للتغطية على مجازره المستمرة وعدد الضحايا المهول الذي تخلفه آلة الحرب الإسرائيلية، وخاصة خلال فترات تصاعد العنف الإسرائيلي. وذلك من خلال استخدام عدة استراتيجيات تهدف إلى تبرير العنف وتقليل التعاطف مع الضحايا، وغيرها كالحملات الموجهة للتأثير على الرأي العام وتمكين السردية الرسمية سياسيًا على الساحة العالمية.
وفيما تستمر التقارير التي تشير إلى أن الجيش الإسرائيلي يتعمد استهداف المدنيين في غزة وخاصة الأطفال، قصف الجيش الإسرائيلي مؤخرًا مدرسة التابعين في حي الدرج وسط مدينة غزّة، وراح ضحية القصف أكثر من 100 شخص، فيما أُصيب العشرات بجروح مختلفة في المدرسة التي لجأ إليه نازحون بسبب العمليات العسكرية المستمرّة في قطاع غزة. وللتغطية على المجزرة روّج الجيش الاسرائيلي لمعلومات مضللة حول ضحاياها وسياق حدوثها، كنشره على سبيل المثال أسماء ضحايا قُتلوا قبل حدوث المجزرة.
اقرأ/ي أيضًا
باليوود: حملة إسرائيلية للتشكيك في مشاهد إصابة الفلسطينيين خلال الحرب على غزة