رافقت الحرب الإسرائيلية على غزة، حملة إعلامية متعددة الأوجه قادتها حسابات إسرائيلية رسمية، وكانت إحدى الحملات تهدف إلى التغطية على الحصار الخانق وسياسة التجويع الممنهجة التي تقودها إسرائيل ضد سكان القطاع، التي وثقتها تقارير عديدة، إذ توقعت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) أن يواجه أكثر من مليون شخص في قطاع غزة المجاعة والموت، بحلول منتصف يوليو/تموز 2024.
وتسعى إسرائيل باستمرار إلى الترويج لسردية مفادها أن المواد الغذائية متاحة بوفرة وأن المساعدات الإنسانية تدخل إلى غزة دون عوائق. وكان المحرك الرئيس للسردية هو الاستناد على صور ومقاطع فيديو تُظهر بضائع في الأسواق وبعض المنتجات الغذائية، في محاولة لخلق انطباع مضلل بأن الحياة تسير بشكل طبيعي، وأن الشكاوى والأنباء التي تصدر من القطاع حول نقص المواد الأساسية مجرد مبالغات أو معلومات غير صحيحة.
من خلال التركيز على مقاطع فيديو مجتزأة ومعزولة عن سياقها، تسعى إسرائيل إلى تغذية سردية تخدم مصالحها وتبرر سياساتها أمام الرأي العام، وتخفف من الانتقادات الحقوقية ضدها خاصة ضمن شريحة الجمهور الغربي.
تجاهل السياق الأوسع للمعاناة
التضخيم الإعلامي لجزء صغير من الأحداث وتقديمه كصورة شاملة هو أداة فعّالة لتضليل الجمهور. كثيرًا ما تعتمد الصفحات الرسمية الإسرائيلية على الترويج لصور ومقاطع فيديو تظهر مشاهد توحي بأن الأوضاع الإنسانية في غزة جيّدة، وذلك من خلال استغلال مشاهد محددة تُظهر وفرة محدودة لمواد غذائية في مناطق جغرافية ضيّقة. يتجاهل التركيز الانتقائي الواقع اليومي الذي يعاني منه أغلب السكان في غزة، كذلك معاناة الغالبية والمناطق الأكثر حاجةً وتضررًا.
استغلال فيديو قصير في دير البلح لتعميم صورة مضللة
حديثًا، نشرت صفحات رسمية إسرائيلية، مقطع فيديو زعمت أنّه يظهر وفرة السلع والمواد الغذائية في منطقة دير البلح بقطاع غزة. لم يتم التعرف على مصدر الفيديو الأصلي أو تاريخ تصويره أو سياقه، بما في ذلك هوية صانعيه، إلا أن الصفحات الإسرائيلية الرسمية كانت من بين أولى الصفحات الناشرة للمقطع.
يمتد الفيديو على 28 ثانية فقط، ويعرض مجموعة من المواد الغذائية وبعض الأشخاص، مع وصف تعميمي يوحي بأن الوضع الإنساني في كامل قطاع غزة إيجابي. ويبدو أن الهدف من المقطع وبالنظر للوصف المرفق هو تقديم صورة عامة أن إسرائيل لا تضيّق دخول المواد الغذائية للقطاع، وأن الشهادات والتقارير حول شح المواد الغذائية في القطاع كاذبة.
انتقائية الرواية الإسرائيلية حول دخول المساعدات لغزة
بالنظر إلى الشهادات والتقارير الرسمية حول الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، تبرز شكوك قوية حول مصداقية الرواية الإسرائيلية التي قد تسعى إلى إخفاء التعقيدات الأعمق للمعاناة الإنسانية هناك. فحتى إذا كان الفيديو المعروض حديثًا، صحيحًا، فإن فهم التفسيرات المختلفة له قد يؤدي إلى استنتاجات مغايرة.
في تقرير صدر في 26 أغسطس/آب الجاري، أشار برنامج الأغذية العالمي إلى أنه خلال الشهرين الفائتين، تمكن من إدخال 24 ألف طن متري من المساعدات الغذائية إلى غزة، وهو ما يمثل نصف الكمية المطلوبة لتلبية احتياجات 1.1 مليون شخص في القطاع.
نظرًا لارتفاع أسعار المواد الغذائية بسبب الحرب، بدأ البرنامج في اختبار مبادرة للمساعدات النقدية في منطقة دير البلح بوسط غزة، لتمكين الأسر من شراء احتياجاتها الأساسية ودعم الاقتصاد المحلي بضخ السيولة اللازمة. ومع ذلك، أشار البرنامج إلى تزايد التحديات الغذائية لسكان القطاع، مما قد يفسر وجود سلع في دير البلح، لكنه لا يعني توفرها للجميع أو استمراريتها، ومن هنا قد تغيّر التفاصيل العميقة للقصة جوهر السردية.
يمكن أن يحيل التركيز على تفاصيل معينة، دون غيرها، إلى استراتيجية دعائية تهدف إلى تضييق نطاق التفكير بصحة الأحداث لدى الجمهور، مما قد يحجب الاحتمالات الأخرى التي قد تعكس جزءًا مغايرًا من الحقيقة. فعلى سبيل المثال، حتى لو أظهرت بعض المقاطع توفر المواد الغذائية في الأسواق، فإن تحليل سياق توفرها بدقة، بما في ذلك أماكن وحجم توفرها، وعدد المستفيدين منها، ضرورة لتكوين فهم أقل تعميمًا وأقرب للواقع الفعلي.
الحقائق الجزئية قد توّجه الجمهور نحو نتيجة مضللة
تشير دراسة نُشرت في جامعة “بهاراتيار”، إلى أن التحيز الإعلامي قد يظهر من خلال تأطير القصص بشكل متعمد لتحقيق أهداف سياسية معينة، وذلك باستخدام ما يُعرف بالإطارات المقصودة (Intended Frames).
تعتمد هذه الاستراتيجية على تشكيل الرسائل الإعلامية بطريقة تخدم أجندات محددة، حيث يتم اختيار الزوايا والنقاط الرئيسية للقصة بعناية لتوجيه الجمهور نحو استنتاجات أو ردود فعل معينة. يلعب هذا النوع من التأطير دورًا محوريًا في تشكيل الفهم العام للقضايا بطرق تتماشى مع مصالح جهات سياسية معينة، مما يجعله أداة فعالة للتأثير على الرأي العام وتوجيهه نحو أهداف محددة.
الإطارات المقصودة يمكن أن تترك انطباعات دائمة في أذهان الجمهور من خلال التركيز على جوانب معينة وتجاهل أو تهميش جوانب أخرى، مما يؤدي إلى تشكيل فهم منحاز وغير متوازن للقضية أو الحدث. تزداد فعالية التأطير الإعلامي بشكل كبير عند دمجه مع مقاطع الفيديو، نظرًا للتأثير القوي الذي تتمتع به الصور المرئية والأسلوب التوثيقي الذي تضفيه.
غالبًا ما تُنشر مقاطع الفيديو المتعلقة بقطاع غزة مع التركيز على مناطق جغرافية محدودة أو لقطات قصيرة، مما يعوق قدرة المشاهد على تكوين صورة شاملة وموضوعية عن الأوضاع في المنطقة.
تقوم الصفحات الإسرائيلية بتضخيم أهمية هذه المقاطع عن طريق الوصف المرفق، لخلق تصورات مغلوطة أو منحازة حول الوضع في غزة. على سبيل المثال، انتشر مقطع فيديو زعمت فيه صفحات إسرائيلية أن السلع في غزة متوفرة بكثرة مقارنة ببعض الدول العربية. استند الادعاء إلى تصوير بضع عربات محملة بالبرتقال، مع التركيز على نطاق جغرافي ضيّق للغاية، لا يعكس الواقع الشامل للوضع الاقتصادي والمعيشي في القطاع.
الافتقار للشهادات الحيّة
تبرز أهمية الشهادات الحية والمصادر الموثوقة في تقديم صورة دقيقة وواقعية لأي حدث. فهذه الشهادات تضفي مصداقية وعمقًا على المحتوى الإعلامي، وتساعد الجمهور على فهم الواقع بشكل أكثر شمولية بعيدًا عن التأطير المتعمد أو التلاعب بالمعلومات. في غياب هذه الشهادات، يصبح من السهل تضليل الرأي العام وتشكيل صورة غير متوازنة عن الحقيقة. في حالة وجود تقارير تتعارض مع المزاعم الإسرائيلية حول توفر الغذاء في قطاع غزة، تصبح للأدلة الحيّة دور مهم في الوصول لاستنتاجات أقرب للواقع.
الجدير بالذكر أن مقاطع الفيديو التي تزعم توفر المواد الغذائية في غزة، غالبًا ما تفتقر إلى السياق الحواري والشهادات الحية من الأشخاص الظاهرين في المشهد. غياب الصوت وكتمه أحيانًا، وعدم الإشارة إلى المصادر، وغياب المقابلات المباشرة يعزز الشكوك حول الأهداف الحقيقية من نشر هذه المواد، مما يشير إلى احتمال أن تكون جزءًا من حملة تضليل تهدف إلى تقديم صورة مشوهة عن الوضع في غزة.
مسبار رصد ادعاءات إسرائيلية متكررة حول توفر الغذاء
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، رصد مسبار سلسلة من الادعاءات الإسرائيلية التي تسعى إلى تبرئة إسرائيل من مسؤولية شح المواد الغذائية وعرقلة وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع. وفي تقرير نُشر في إبريل/نيسان 2024، فنّد مسبار هذه الادعاءات مستندًا إلى تقارير صادرة عن مكتب الأمم المتحدة، أكدت أن إسرائيل تفرض قيودًا تعيق وصول المساعدات إلى غزة.
كما أشار مسبار في تفنيده للادّعاءات الإسرائيلية إلى أدلة وتقارير أخرى كتلك الصادرة عن منظمة هيومن رايتس ووتش، والتي أفادت بأن التجويع الذي تفرضه إسرائيل يتسبب في وفاة أطفال في غزة، معتبرةً ذلك جريمة حرب.
كما أبرز تقرير مسبار تحقيقًا أجرته شبكة "سي إن إن" يكشف أن إسرائيل تعرقل دخول المساعدات بشكل تعسفي. وفي يوليو 2024 أشار تقرير مسبار لأدلة تثبت أن إسرائيل تشن حملة تجويع ممنهجة ضد غزة وفنّد أيضًا مجموعة من الادعاءات المضللة حول المساعدات الإنسانية كان قد نقلها رئيس الوزراء الإسرائيلي في خطابه أمام الكونغرس الأميركي.
اقرأ/ي أيضًا
في خطابه أمام الكونغرس: حقيقة ادعاءات نتنياهو حول المساعدات والمجاعة في غزة
ادعت إسرائيل أنّها غير مسؤولة عن تعطيلها: ما أسباب تأخر دخول المساعدات إلى قطاع غزة؟