احتدم النقاش حديثًا، في تونس، حول استقلالية البنك المركزي بين مؤيد ومعارض لهذا التمشي الذي سلكته البلاد منذ سنة 2016 وذلك بعد أن تقدم مجموعة من نواب الشعب يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بمبادرة تشريعية لتنقيح قانون البنك المركزي، تتيح له تمويل خزينة الدولة.
جدل استقلالية البنك المركزي في تونس
وقد اتجهت تونس منذ حوالي تسع سنوات نحو تكريس استقلالية البنك المركزي بمقتضى القانون عدد 35 لسنة 2016 المتعلّق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي، والذي عزز استقلالية البنك في تحقيق أهدافه ومباشرة مهامه والتصرف في موارده ومنع إقراض الدولة بمقتضى الفصل عدد 25 الذي ينص على أنه "لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة للدولة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة". هذا التوجه نحو إعفاء البنك المركزي من إقراض الدولة أو شراء سنداتها كان دافعه تطبيق الإملاءات التي فرضها صندوق النقد الدولي على تونس، لتمكينها من الحصول عل قرض بقيمة 2.8 مليار دولار والمتمثلة في رسملة البنوك العامة وإصلاحها فتوجهت تونس بذلك إلى الاقتراض من البنوك المحلية التجارية.
جدل استقلالية البنك المركزي، كان قد أثاره رئيس الجمهورية منذ سبتمبر/أيلول 2023 تاريخ تأديته لزيارة لمقر البنك المركزي، حيث اعتبر في حديثه مع نائب محافظ البنك، أن الاستقلالية لا تعني الاستقلال عن الدولة، وأنه لا بد من انسجام البنك مع السياسة النقدية للدولة، مشددًا على ضرورة التفريق بين الاستقلالية في المجال النقدي والاستقلالية في المجال المتصل بالميزانية.
وبين الرئيس أنه كان يمكن عدم إدراج الفصل 25 من القانون عدد 35 لسنة 2016، الذي بسببه تلجأ الدولة للاقتراض من البنوك التجارية التي تستفيد من نسب الفائدة على الدين، في حين أنه يمكن أن يستفيد منها البنك المركزي، مذكرًا أنه منذ سنة 1986 بدأت الدولة في التخلي عن دورها ودور البنك المركزي الأساسي في الاقتصاد التونسي. كما شدد على ضرورة تطوير النص القانوني حتى يلعب البنك المركزي التونسي دوره لأنه مؤسسة عمومية وليس مؤسسة مستقلة عن الدولة.
وبعد حوالي شهر من حديث الرئيس التونسي، الذي أعرب فيه صراحة عن عدم رضائه على قانون استقلالية البنك المركزي الذي يحظر بمقتضاه إقراض الدولة، نظم البرلمان يومًا دراسيًّا برلمانيًّا حول استقلالية البنك المركزي وفاعلية السياسة النقدية في تونس بتاريخ 11 أكتوبر 2023، ناقش خلالها النواب مسالة استقلالية البنك المركزي وسياسته النقدية. ومن خلال المداخلات يتضح وجود شبه إجماع على ضرورة إدخال تعديلات على القانون عدد 35 لسنة 2016.
وبتاريخ 26 يناير/كانون الثاني 2024، أودعت رئاسة الجمهورية مشروع قانون يتعلق بالترخيص للبنك المركزي التونسي في منح تسهيلات لفائدة الخزينة العامة للبلاد التونسية مع طلب استعجال النظر فيه وينص الفصل الوحيد في المشروع على أنه "استثناء لأحكام الفصل 25 عدد 35 لسنة 2016، المؤرخ في 25 أفريل (إبريل) 2016 والمتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي وبغرض تمويل جزء من عجز ميزانية الدولة لسنة 2024، يرخص للبنك المركزي التونسي بصفة استثنائية في منح تسهيلات لفائدة الخزينة العامة للبلاد التونسية في حدود مبلغ صاف يقدر بـ7 آلاف مليون دينار، تسدد على مدة عشر سنوات منها ثلاث سنوات إمهال ودون توظيف فوائد. تمنح هذه التسهيلات حسب طلبات الخزينة العامة للبلاد التونسية وتبرم اتفاقية بين الوزير المكلف بالمالية ومحافظ البنك المركزي التونسي تضبط خاصة طرق سحب هذه التسهيلات وتسديدها".
وفي الجلسة العامة المنعقدة يوم 6 فبراير/شباط 2024، تمت المصادقة على مشروع القانون بأغلبية نواب الشعب ب 91 نعم و22 محتفظ و18 رافض.
هذه الخطوة التي اتخذتها الحكومة والمتمثلة في الاقتراض من البنك المركزي، كان قد رفضها محافظ البنك المركزي السابق مروان العباسي الذي امتنع سنة 2020 عن تمويل عجز الميزانية التكميلي لسنة 2020 "بلا ضمانات"، وذلك إثر طلب تقدمت به حكومة هشام المشيشي إلى البنك المركزي لتمويلها.
وقد أكد العباسي خلال جلسة حوار عقدها البرلمان في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، على تمسكه بالمحافظة على مستوى التضخم الذي أمكن تخفيضه نتيجة سياسة نقدية صارمة وعلى أنه لا يمكن التراجع عن الاستقرار المالي الذي تم تحقيقه متسائلًا عن فرضية عجز الحكومة مرة أخرى عن الخروج إلى الأسواق الخارجية للحصول على قروض أجنبية، فهل يتم اللجوء مرة أخرى إلى البنك المركزي لتمويلها؟
وفي جلسة استماع له بالبرلمان أمام لجنة المالية والميزانية حول مشروع القانون المتعلق بالترخيص للبنك المركزي التونسي بمنح تسهيلات لفائدة الخزينة العامة للبلاد التونسية، أكد العباسي أن القرض الذي سيمنحه البنك للدولة لا ينجر عنه تضخم بل انخفاض في احتياطي العملة إلى 14 يوم تصدير وله تأثير عل نسبة الصرف.
ويرجح متابعون للشأن الاقتصادي والسياسي في تونس أنه لم يتم التمديد لمروان العباسي بـ6 أشهر بعد أن انتهت مدته النيابية يوم 16 فبراير/شباط الفائت، بسبب تناقض مواقفه في علاقة باستقلالية البنك المركزي ونسب الفائدة المديرية مع رؤية الحكومة. وتم تعيين فتحي النوري خلفًا له.
هل يمثل القانون الجديد للبنك المركزي حلًا أم عائقًا جديدًا؟
اختلفت الآراء والقراءات لمشروع القانون، فقد اعتبر بعض الخبراء أنه خطوة مهمة نحو تعبئة خزينة الدولة في ظل العجز عن التداين من الأسواق الخارجية فيما يراه البعض تجريدًا للبنك من استقلاليته، فيما يذهب البعض الآخر إلى أن التعديل يجب أن يكون مشروطًا بتوجيه القروض لخلق الثروة وليس للاستهلاك.
ويرى الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي أنه لا بد من تغيير القانون عدد 35 لسنة 2016 بسبب عدم دستوريته منذ إقرار العمل بدستور 2022 لأنه يستند إلى الفصل 78 من دستور 2014، منتقدًا بعض التعديلات التي اقترحت في مشروع القانون عدد 070 لسنة 2024، منها الفصل 7 الذي ينص في نقطته الثانية المتعلقة بأهداف البنك على "مواءمة السياسة النقدية مع السياسة المالية ومتطلبات الميزانية العامة للدولة بما يقلل من حجم الدين الداخلي والخارجي وتكلفة تمويل الحزينة العامة"، معتبرًا أن هذا الهدف بدعة في تاريخ الاقتصاد المعاصر وأنه لا يوجد أي قانون أساسي للبنك في العالم يحمل البنك مسؤولية تفاقم المديونية لأن ذلك تتحمل تبعاته الحكومة وحدها على اعتبار أنه خيار للسلطة التنفيذية.
كما لفت الشكندالي في حديثه لإذاعة موزاييك المحلية، أن الفصل 25 من مشروع القانون يمس فعليًا باستقلالية البنك المركزي لأنّه نص في النقطة الرابعة المتعلقة بالدين الخارجي على التمويل الآلي لخدمة الدين الخاصة بالقروض المقومة بالعملة الأجنبية باستخدام احتياطات العملة الأجنبية التي يحتفظ بها البنك شريطة أن تكون الاحتياطات أكبر أو تساوي 90 يوم توريد، معتبرًا أن هذا الإجراء خطير وانتهجته تونس منذ سنة 2023 وهو تفضيل استخلاص الديون على حساب ما يلزم الشعب من مأكل ومشرب وأدوية وأخطر من ذلك على حساب توريد المواد الأولية ونصف مصنعة الضرورية للإنتاج والحال أن الاقتصاد التونسي، مرتبط بالخارج على مستوى الإنتاج وعندما ينخفض النمو الاقتصادي تتضرر الموارد الجبائية وسياسة الاعتماد على الذات التي تريد الدولة تطبيقها، كما أشار إلى أن العديد من الفصول من بينها الفصل عدد 31 تكبل ما يمكن أن يقدمه البنك المركزي.
بدوره يرى المحلل المالي بسام النيفر، أن التعديلات المعروضة عميقة جدًا وتفرض على البنك المركزي الرجوع إلى مجلس النواب قبل اتخاذ أي قرارات وأن يتشاور مع الحكومة في بعض الأحيان معتبرًا أنه من غير المعقول السحب آليا من احتياطي مخزون العملة الصعبة إذا تجاوز ال90 يوم توريد لأن 90 يوم ليست هدفًا بل هي الحد الأدنى ووحب العمل لبلوغ 200 يوم توريد لتكتسب البلاد صلابة مالية وتكسب ثقة المستثمرين وتحقيق استقرار الدينار الذي تم التنصيص عليه في الفصل 7.
وجزم النيفر في تصريحه لإذاعة إكسبراس المحلية، أن اقتصار مخزون العملة الصعبة على 90 يوم توريد، من شأنه أن يعطي صورة سيئة لوضع الاقتصاد في تونس بغض النظر عن وضعيته الحقيقية، مضيفًا أن رصيد العملة الصعبة ليس ملكًا للدولة وتحت تصرف البنك المركزي بل هو يمثل ما هو موجود في البنوك التجارية التونسية ولدى الخزينة العامة.
في المقابل دعا الخبير في المخاطر المالية مراد الحطاب إلى إلغاء قانون استقلالية البنك المركزي لأنه مؤسسة تابعة للدولة ولا يجب أن تكون مستقلة عن قرارات وسياسات ومصالح الدولة، معتبرًا أن النظرية التي يروج لها الخبراء والمتمثلة في استهداف التضخم من خلال الترفيع في نسبة الفائدة المديرية هي نظرية ضالة والتمشي الذي انتهجته تونس منذ سنة 2016 بعنوان استقلالية البنك المركزي واستهداف التضخم، خاطئ. وبين الحطاب في تصريحه للإذاعة الوطنية أن صندوق النقد الدولي هو من طالب تونس سنة 2016 باستقلال البنك المركزي.
من جانبه يرى النائب عن كتلة صوت الجمهورية نزار صديق، أن تونس تعيش وضعًا استثنائيًّا لأنها لا تقترض من الصناديق الخارجية بالتالي وجب تمويل خزينة الدولة بأقل التكاليف لذلك من الضروري الاقتراض من البنك المركزي بشكل مباشر وبأقل نسب فائدة من التي تقرها البنوك التجارية.
كما اعتبر أن الوضعية الحالية لتونس بالقانون المعتمد حاليًّا يعرض لتونس لعدة مخاطر من بينها ارتفاع الديون الداخلية والخارجية بما يمكن أن يؤدي إلى إفلاس الدولة وكذلك اعتماد تونس على المانحين الأجانب يؤدي حتمًا إلى فقدان السيادة كما يتسبب الاقتراض من البنوك التجارية في شح السيولة وهو ما يضر بالاستثمار.
اقرأ/ي أيضًا
ماذا تعرف عن سياق الانتخابات الرئاسية المقبلة في تونس؟
رفع التصنيف الائتماني لتونس: دلالة إيجابية أم تحديات مستمرة؟