لطالما استخدمت الدول ومؤسساتها وسائل الإعلام الجماهيرية -وفي أيّامنا، وسائل التواصل الاجتماعي-، لنشر أجنداتها السياسية والعسكرية، كما شكّلت الدعاية السياسية أو البروبغندا، جزءًا من استراتيجيات السياسة المحلّية للدول الديموقراطية وغير الديموقراطية، كما عرضها نعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان في كتابهما، تصنيع الموافقة (Manufacturing Consent)، فإحدى أطروحات الكتاب هي العلاقة الوطيدة بين وسائل الإعلام الجماهيري، الصحافة تحديدًا، ومراكز صنع القرار في الدول الديمقراطية، حيث تستغل مراكز صنع القرار هذه الوسائل لتمرير معلوماتٍ معيّنة، كما تستغل الجهات الحكومية هذه المنصّات الإعلامية، لكسب تعاطف الجماهير حول قضيّة معيّنة أو خلق عدو معيّن وإقناع الرأي العام بخطورته، بالتالي، تصيغ وسائل الإعلام هذه شكلًا من القناعة العامة، وصياغة موحّدة للواقع. اليوم، ومع توفّر وسائل التواصل الاجتماعي، تقوم الدول باستخدامها كأداة للتأثير على السياسة المحليّة والخارجية عن طريق نشر أجنداتها، وبينما تعد هذه المنصّات الرسمية مصدرًا مهمًّا لاستسقاء الأخبار والمعلومات للمواطنين في جميع أنحاء العالم، تستغل الدول هذه المنصّات لتحريف الحقائق، ونشر معلومات زائفة ومضلّلة.
تتناول هذه المدوّنة استغلال الحكومة الإسرائيلية، ووزارة الخارجية الإسرائيلية تحديدًا، وسائل التواصل الاجتماعي لبثّ الدعاية الإسرائيلية، حيث لا تكتفي بنشر أجندتها فقط، إنّما تحرّف الحقائق وتنشر المعلومات المضلّلة الّتي تدعم روايتها تحت غطاء مؤشّرات عالمية، ومعطيات علمية، كما تعرض هذه المدوّنة تحقيقات "مسبار" حول بعض منشوراتٍ وزارة الخارجية الإسرائيلية في منصّاتها الناطقة باللغة العربية، والموجّهة لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في الدول العربية.
"إسرائيل بالعربية"، الدعاية، والأخبار المضلّلة
أعلنت وزارة الخارجية الإسرائيلية عام 2011 عن إطلاقها صفحة لى موقع فيسبوك باللغة العربية، يكاد يصل متابعوها اليوم إلى قرابة مليوني ونصف متابع، وحساب على موقع تويتر، يتابعه قرابة 500 ألف مستخدم، إذ هنالك من يربط بين توقيت إطلاق هذه الصفحات وبين انطلاق مظاهرات الربيع العربي والّذي تمثّل باستخدامٍ مكثّف لمنصّات التواصل الاجتماعي في صفوف الشباب العرب، تنشر بشكلٍ يوميٍّ أخبارًا ومعلومات موجّهة تحديدًا لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي، ومصمّمة خصّيصًا لأجلهم، تهدف أوّلًا لنشر الدعاية الإسرائيلية، وثانيًا، لتسهيل مساعيها للتطبيع وتبييض صورة الاحتلال.
وبالتزامن مع إعلان اتّفاقية التطبيع بين الإمارات العربية المتّحدة و"إسرائيل" في شهر أغسطس/آب 2020، عقّب رئيس الوزراء الإسرائيلي أنّ هذا الاتّفاق يعبّر عن حقبة جديدة للعلاقات بين دولته وبين العالم العربي، إذ أعلن عبر تغريدةٍ باللغة العربية في حسابه الرسمي على موقع تويتر، عن نيّته المشاركة في مراسم التوقيع على الاتّفاق في البيت الأبيض، عقبها، نشرت صفحة إسرائيل بالعربية عبر منصّة فيسبوك وتويتر، منشورًا حاز على رواجٍ واسعٍ، ادّعت خلاله أنّ أغلب المواطنين في العالم العربي يؤيّدون السلام مع إسرائيل، مستغلّة موجة التطبيع للترويج لتقبّلها ضمن عدّة دول في العالم العربي، إذ نسبت "إسرائيل بالعربية" نتائج هذا الاستطلاع لمؤسّسة زغبي الأميركية، ليتبيّن لاحقًا وبعد تحقق "مسبار"، أنّ وزارة الخارجية الإسرائيلية قلبت نتائج الاستطلاع لصالحها، وأنّ المشاركين في الاستطلاع لا يؤيّدون التطبيع بغالبيّتهم، لا بل ظهر في استطلاعٍ أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بين 2019 و2020، أنّ قرابة 90% من مواطني العالم العربي يرفضون التطبيع مع "إسرائيل".
ولا تكتفي وزارة الخارجية الإسرائيلية بالترويج لعلاقتها الوهميّة مع مواطني العالم العربي، إنّما تستغلّ صفحاتها للترويج لتكنولوجيّاتها وتطوّرها العلمي، تلك الرواية التي تُعتبر جزءًا لا يتجزّأ من سياساتها الخارجية ودعايتها، فعلى سبيل المثال، نشرت "إسرائيل بالعربية" منشورًا في نوفمير/تشرين الثاني الفائت، يدّعي أنّ لدى "إسرائيل" اكتفاءً ذاتيًّا في جميع الموارد الغذائية، وأنّها توفّر "95% من الموارد الغذائية الّتي تستهلكها"، ولم تدعم هذا المُعطى بأي مرجعٍ علميٍّ أو رسمي، وبعد تحقّق "مسبار"، تبيّن أنّ وزارة الزراعة الإسرائيلية ذاتها، نشرت تقريرًا عام 2019، أكّدت خلاله أنّه من غير الممكن أن يكون لديها اكتفاءً ذاتيًّا، كما نشرت مواقع إخبارية إسرائيلية تفيد بأن الحكومة هناك أخفقت فيما يتعلّق بالأمن والإمدادات الغذائية، وبالعودة للمؤشّرات الدولية، فوفق معايير منظّمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتّحدة، عدد قليل فقط من الدول مؤهّلة لأن تتمتّع بالاكتفاء الذاتي، ولا تقع "إسرائيل" ضمنها.
وفي ديسمبر/كانون الأول، نشرت "إسرائيل بالعربية" تغريدةً تدّعي أنّ أوّل من أنتج الحليب ومشتقاته دون الحاجة إلى أبقار هي شركة إسرائيلية، وهنا أيضًا، بعد التحقّق، تبيّن أنّ هنالك عدّة شركات أميركية وأوروبية، تعمل وفق هذه التقنية قبل الشركة الإسرائيلية.
ومن الممكن تأطير الآليات الاجتماعية التي تفسّر تصديق وتداول مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لمثل هذه المنشورات الدعائية، والمُنخفضة الجودة ضمن وجهة نظر نفسية، وفق ما يسمّى Confirmation Bias، Heuristic Frequency، وInformal Influence، والّتي هي آليات تفسّر ميل مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي إلى تشكيل مواقفهم ومعتقداتهم بناءً على حجج مقدّمة في النقاشات الدائرة في وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك باستخدام الشعبية، كتلك الموجودة لدى صفحات وزارة الخارجية الإسرائيلية باللغة العربية، كمقياسٍ للمصداقية، أو تلك المعلومات الّتي تؤكّد معتقداتٍ سابقة، ليست بالضرورة صحيحة، كرواية التطوّر التكنولوجي التي تسعى "إسرائيل" تأكيدها في جميع الأطر والمناسبات المحلية والدولية، فإن اشتباك هذه الآليات مع كثرة تدفّق المعلومات في الفضاء الرقمي، تقلّل من قدرة المستخدمين التحقق بأنفسهم من صحّة المعطيات.
مؤشّرات عالمية والرسومات البيانية
ضمن رصد "مسبار" لصفحة إسرائيل بالعربية، لوحظ ترويجها لمؤشّرات وتصنيفات عالمية للترويج لمؤسّساتها، حيث يوظّف المسؤولون على الصفحة جهدًا في تصميم رسوم بيانيّة، لتصنع حقيقة انتقائية ومُنحازة لصالح روايتها ورؤيتها الإقليمية، على سبيل المثال، نشرت وزارة الخارجية الإسرائيلية رسمًا بيانيًّا يروّج للجامعات الإسرائيلية، تحت عنوان "ترتيب أفضل جامعات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" وفق تصنيف "سيماجو" العالمي، وبعد تحقّق "مسبار"، تبيّن أنّ "إسرائيل" بالعربية حذفت من رسمها البياني جامعة إيرانية وأخرى تركية، والّتي بحسب "سيماجو" احتلّت مراتب أعلى من بعض الجامعات الإسرائيلية، كما أنّها تلاعبت في وصف معايير المؤشّر، بشكلٍ يجعلها تحتل مراتب عالية فيه.
مؤخّرا، في فبراير/شباط الجاري، نشرت "إسرائيل بالعربية" تغريدةً، مرفقة أيضًا برسمٍ بياني، حول تصنيف "هنلي أند بارتنرز" لجوازات السفر في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وعلى شاكلة تصنيف "سيماجو"، حذفت الصفحة جواز السفر الفلسطيني والإيراني من رسمها.
الدعاية الإسرائيلية والسيطرة على المعلومة
تعتبر الدعاية الإسرائيلية إحدى ركائز استراتيجية المعلومات الأمنية الإعلامية الإسرائيلية، وتقع ضمن ثلاثية إدارة الأخبار، والرأي العام، والبروبغندا، تشكّل عن طريقها الرأي العام، وتروّج للقضايا التي تسعى لوضعها على الأجندة السياسية المحليّة والعالمية، تحديد معايير خطابها، ونزع الشرعية والتحريض على من يعارضها، هادفةً للتأثير على الوعي المحلّي والعالمي، أو التلاعب في الحقائق والمعطيات، كما أشرنا سابقًا، ونشر مضامين منحازة من أجل الترويج لرواية واحدة، حيث تعتبر "إسرائيل بالعربية" إحدى أهم أذرع الدعاية الإسرائيلية، إن لم تكُن الأكثر أهميّة مؤخّرًا، إذ إنّ استعمالها لرسومٍ بيانية، ومُعطياتٍ قاطعة دون مراجع، واستنادها على مؤشّرات عالمية، مستغلّةً بذلك العدد الهائل من المتابعين والمعجبين في الدول العربية، ودور وسائل التواصل الاجتماعي بالتأثير على الوعي، تروّج لنفسها على أنّها منصّة معرفية، على الرغم من نواياها السياسية.
المصادر:
Miriyam Aouragh: Hasbara 2.0: Israel’s Public Diplomacy in the Digital Age
Samantha Bradshaw: Influence Operations and Disinformation on Social Media
Aljazeera – Linah Alsaafin: Digital occupation: What’s behind Israel’s social media in Arabic
Middle East Policy Council: Hasbara and the Control of Narrative as an Element of Strategy
ألتراصوت - عمار جمهور: نعوم تشومسكي.. صناعة القبول في إدارة الإعلام
رصيف 22 - أحمد البرديني: "إسرائيل تتكلم بالعربية": أهلاً بكم في الإعلام الإسرائيلي البديل
السفير العربي – مجد كيّال: تفتيت الركام: إعلام إسرائيل والرأي العام العربي
العربي الجديد – صالح النعامي: الدعاية الإسرائيلية بالعربية: الأهداف والأدوات والشخوص