"تخوض الخوارزميات التجارب وتمتلك الخبرات تماماً كما يفعل البشر"
Suresh Venkatasubramania
في عام 1971، أصدرت المحكمة الأميركية العليا حكمًا في قضية شركة روك، التّي كانت تزوّد مكاتب الحكومة الفيدرالية وولايتي كارولاينا الشمالية والجنوبية بالكهرباء. ومعلوم أنًّ الشّركة لم تكن تسمح بتوظيف ذوي البشرة السوداء إلّا كعمّال عاديين، بأجور ضئيلة، وعبر الآليات القانونية اللازمة، حُظر أي تمييز عنصري يطال الموظفين.
هذه الحادثة بنتائجها غير المباشرة، لفتت انتباه الباحث الرئيسي في جامعة ولاية يوتاه البروفيسور Suresh Venkatasubramanian، وحثّته على الخوض أكثر في إشكالية العالم الرقمي والشبكة العنكبوتية، بالأخص تلك المتعلقة بإشكالية ما يسمّى بانحياز الخوارزميات بعد أن انقشع ذكاؤها، حتّى باتت أقرب للإنسان وتشكل بكل تشعباتها وتعقيدتها جزءًا لا يتجزأ من حياته.
شارك البروفيسور مع زملائه في ورقة بحثية عُرضت في مؤتمر رابطة الحوسبة الآلية للمعرفة والاكتشاف، وضمت الورقة خوارزميتين تعملان واحدة تلو الأخرى، الأولى تكشف ما إذا كانت قادرة على التمييز الجنسي، بين الإناث والذكور من بين عينات عديدة. والثانية تعمل على تعديل البيانات وتجهيزها ضد الانحياز، بعد أن ظهر أنَّ الخوارزميات قابلة للانحياز خصوصًا إذا ما اكتشفت أنماطًا ضمن مجموعة من البيانات المدروسة مرتبطة بخصائص ديموغرافية. فعلى سبيل المثال، تستطيع خوارزمية ما، أن تنحاز لأقلية معينة إذا كانت خصائصها مرتبطة بنتائج عالية، لطلبات توظيف تمّ تقييمها بناء على اختبارات شفهية.
ومن هنا صار لازمًا فهم دور الخوارزميات وماهيتها بعدما شكلت توجّسًا إزاء ما حصل أثناء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والذي ما انفك أن انتقل إلى الساحة الافتراضية. فأعادت هذه الخوارزميات مسرح النقاش مرّة أخرى حول مفهومها وتحيزها لصالح جهة على حساب أخرى.
الخوارزميات Algorithms، والصراع الافتراضي
تعني الخوارزمية "مجموعة من العمليات يتعيّن تنفيذها بشكلٍ متسلسل، خطوة بخطوة. وفي حال أوكل للحاسوب تنفيذ هذه الخطوات، تقوم الخوارزميات على أتمتة وتنظيم العملية. وبمجرد تصميمها تعمل الخوارزمية بشكل مستقل، بحيث تؤدي وظائفها دون إشراف بشري يذكر.
وتُعرف الخوارزميات على أنّها مجموعة من القواعد والأوامر التي تنفذّ بشكل تراتبي منظّم لحلّ مشكلة أو تأدية وظيفة معينة. والخوارزمية ليست لغة برمجة بالمعنى الصريح؛ وإنما طريقة للتحليل والتفكير يتمّ اتّباعها أثناء كتابة الرموز والأوامر بشكل منطقيّ صحيح. ومع الطفرة المتزايدة التي تشهدها البيانات الرقمية، وزيادة كميتها نوعًا وكمًّا، تغيّر مفهوم الخوارزمية ومعناها ليرتبط بإدارة ومعالجة البيانات الضخمة big data، كما ارتبط معناها بجهود إنشاء ملفات التصنيف profiles من خلال إجرائها عمليات حسابية على أنواع من البيانات، يتمّ بموجبها استخلاص تلك المتعلقة بالمستخدمين، ثمَّ تبويبها داخل ملفات منفصلة، واستغلالها لاحقًا في مجالات تجارية أو دعائية أو سياسية.
ورغم سهولة تعريف مفهوم الخوارزمية، إلّا أنه من الصعب معرفة كيفية اشتغالها، بسبب التعقيد الناتج عن استقلالية عملها؛ ما خَلق مخاطر مختلفة وخلافات عميقة في حقل "الإتيقا" والعالم الرقمي بالمجمل.
حرب إلغاء وتواطؤ شركات كبرى
ما نجم عن خوارزميات مواقع فيسبوك وتوتير وانستغرام من تحيّز واضح كان المثال الأكثر وضوحًا، الأمر الذي حذا بالكثيرين إلى الاحتجاج وعدم السكوت. فعقب تقويض إسرائيل للبنية التحتية في غزة وإلحاق الأذى الكبير بالمدنيين العُزّل، عدا عن قمعها للوقفات السلمية في حيّ الشيخ جرّاح الذي أشعل فتيل الهبة الشعبية التي دامت لأيّام على كافة الأراضي الفلسطينية المحتلّة، عملت تلك الخوارزميات على حجب كل محتوى يضم أصوات فلسطينية تندد بالعنف والعمل الوحشي.
وتكمن خطورة هذه الخوارزميات في قدرتها الكبيرة على تشكيل الفضاءات الرقميّة بما يتناسب مع محتواها، وعلى تغيير الواقع والوقائع كأي عمل إنساني وتغيير معطيات تاريخية ومصادرة الوعي الجمعي، بما يشكل خطرًا على الرواية الحقيقية وتضليلًا يفيد المحتليّن، لشرعنة أعمالهم وضمان صمود أصواتهم في مجابهة الموقف العالمي.
وبعد تدني تقييم موقع فيسبوك بشكل كبير ورفض شركة آبل الأميركية حذف التقييمات السلبية، أصدرت شركة فيسبوك في بيان لها اعتبرت فيه أنّ الانحياز الذي وقع، هو خطأ تقنيّ متعلّق بخوارزميات مراجعة المحتوى على الموقع. ومن هنا لا بد من طرح تساؤلات حول مخاطر الخوارزميات وما ينتج عنها من اضطهاد.
مخاطر الخوارزميات
يمكن القول إنَّ الخوارزميات لديها وظيفة "كحارس البوابة"، من ناحية استقلاليتها في اتخاذها القرارات المعنيّة بنوعية المعلومات والأخبار المُقدّمة، فمثلًا تتأثر الاتجاهات والموضوعات الرائجة Trends على موقع تويتر بتصميمه الخوارزمي الذي يعمل وفق قيم زمينة، بحيث يزوّد المتسخدمين بتغذية آنية ولحظية حول أنشطة الحسابات التي يتابعونها، ما يضفي عليها حضور معلوماتي عاجل غير مفلتر، مرتب بحسب المناطق الجغرافية.
فيما على العكس تمامًا يعتمد "فيسبوك" على خوارزميات تفاعلية، تنمو على سلوكيات المستخدمين، وبالتالي يرتهن ظهور المحتوى على جدار التغذية الإخبارية newsfeed بنوعية تفاعل المستخدم أو كثافة التفاعل الجماهري مع مختلف الموضوعات وهذا يعني أنَّ تفاعل المستخدم مع قضايا وصفحات وحسابات محددة، سواء بالإعجاب أو المشاركة، مسؤول عن ظهور محتوى بعينه دون غيره، بعكس موقع تويتر الذي يعرض المحتوى بناء على قيمته الزمنية.
للوهلة الأولى، قد لا يبدو السابق خطيرًا، لكن يمكن للكثير من الجهات التلاعب بهذه الخوارزميات فيمكن للروبوتات الاجتماعية التأثير على خوارزميات حساب الاتجاه trending، عبر إغراق مواقع التواصل الإجتماعي بوسم معين لخداع المستخدمين وإيهامهم بأنه الأكثر رواجًا وذلك بهدف دفعه إلى الواجهة العامة.
وتعمل الروبوتات أيضًا على زيادة أعداد المتابعين لصفحة ما تخص شخصية مشهورة أو مؤسسة مهمّة. فيمكن لجهات ما ولهدف التأثير على الشرائح الموجودة في منصات التواصل الاجتماعي أن تتلاعب بالخوارزميات بعد حصولها على متابعات مزيفة، من قبل روبوتات تتوظف خصيصا لأداء هذه المهمة.
بالإضافة إلى قيام جهات معينة بالتلاعب في الخوارزميات بهدف جذب الوسائل الإعلامية، وبالتالي توظيف هذا الاهتمام لتمرير رسائلها على نطاق واسع دون أن تشعر بذلك وسائل الإعلام. فبعض الأحزاب السياسية وبهدف تحقيق مآربها وأهدافها في الأوساط الجماهيرية المؤيدة والمعارضة لها تلجأ إلى التلاعب بالخوارزميات، وباستخدامها للروبوتات ينتقل موضوعها على شبكات التواصل ويصبح حديث المستخدمين، وطبيعي أن تقوم الوسائل الإعلامية بدورها بتداول محتوى الموضوع دون أن تعي حقيقة ارتباطه بعملية التلاعب التي تقوم بها هذه الأحزاب.
ومن بين المخاطر نضيف إمكانية توظيف الخوارزميات لصالح دول تجمعها العديد من المصالح مع منصات التواصل الإجتماعية، أهمها المصالح المالية. فقد كُشفت تقارير عن العلاقة بين اسرائيل وشركة فيسبوك، تفضح عمليات التلاعب والانحياز التي تقوم بها الأخيرة لحذف أي محتوى يصب مباشرة في إعلاء صوت القضية الفلسطينة في الجغرافيا الرقمية.
في أبريل/نيسان عام 2019 كشفت صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن استثمار كبير لفيسبوك في عمليات الذكاء الاصطناعيّ داخل اسرائيل، من خلال تأسيس مركز للبحث والتطوير خاص بالشركة مصمم لمساعدة عمل المهندسين والمبرمجين سواء العاملين داخلها أو خارجها.
اضطهاد خوارزمي
بعد تحوّل منصات التواصل الإجتماعي إلى ما يشبه ساحة معركة دائرة بين داعمين لإسرائيل ومدافعين عن حقها في الدفاع عن نفسها وبين مناصرين للفلسطنيين وقضيتهم، وبعد انتشار وسم #أنقذوا_حي_الشيخ_جراح بلغتيه العربية والإنجليزية ، ووسم #غزة_تحت_القصف، وبعد اصطفاف الشركات العملاقة إلى جانب إسرائيل، ازدادت التحليلات بخصوص الاضطهاد الذي يتعرض له الفلسطينيون في الواقع والحياة الافتراضية، وزاد الحديث عن قيام دول عدة باللعب بخوارزميات محركات البحث لحجب المعلومات والأخبار التي تمارسها إسرائيل بحق قضية الشيخ جراح وما تابعها. ويأتي السؤال حول قدرة المستخدم على مقاومة هذا الاضطهاد عبر التحايل على تلك الخوارزميات.
مكافحة الاضطهاد الرقمي
وللتحايل على الخوارزميات لجأ الداعمون للقضية الفلسطينية وخوفًا من القمع الإلكتروني الممنهج، إلى تفريق حروف بعض الكلمات بنقاط أو عن طريق ترك مسافة بين كل حرف للكلمة الواحدة والتي تضعها شركات التواصل -وفق زعمها- في خانة الإرهاب.
ولجأ البعض الآخر إلى تطبيقات لكتابة المنشورات بتجريدها من النقاط بهدف خداع الخوارزميات خصوصًا وأنها تفشل في التعرف على الكلمات غير المنقوطة نظرًا لبرمجتها على قاموس محدد.
وهكذا تمكّن الكثيرون من توجيه الرسائل التي تحافظ على الحقائق بعيدًا عن أيّ تضليل وتزييف وتلاعبٍ في الأحداث، وبعيدًا عن الاضطهاد الخوارزمي الذي شغل الرأي العام العالمي.