كانَ الإنترنت بشكله الأولي يُستخدم للفعل التواصليّ ، ثمَّ مع تطوّر الثورة التّكنولوجية؛ أمسى العالم الرقمي وعاءً يستوعب ويوثّق كلّ المعلومات من جميع أطراف القارّات، بسرعة فائقة.
اخترعت هذه الشّبكة العنكبوتية بذاتها، وعبر الإنسان الواعي، مفهوم ما يُعرف بالعولمة التكنولوجية الضّخمة، فجمعت هياكل لغوية لا تُحصى ومعرفة واسعة، وقد تعدّت الاتصال، لتصبح أوكسجين العصر، ما من كائنٍ منتمٍ لزمنها بإمكانه أن يعثر على بديلٍ لها. ذلك أنها صارت متجسدة تمامًا في نفوس مستخدميها، متجذرة في تكوينهم الذهني والوجداني والعاطفيّ.
وإذا أردنا الخوض في تفصيل المجال الوظيفي للإنترنت، فما بعد عام 2016، ليس كما قبله، حين تمت بلورة وتشكيل ما اصطلح على تسميته بالـ fake news والاشتغال على تفكيك زمن ما بعد الحقيقة الذي أصبح واضح المعالم. بالإضافة إلى الظّاهرة الترامبية المتوحشة التي صارت رمزًا ومرآة للنظام الرأسمالي وأزمته العاصفة. كان للرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب الحصة الأكبر في دراسة حالته، والأكثر تداولًا بين الصحف والمجلات، خصوصًا وأنًه نُعتَ بأبي الأخبار الزائفة.
هذا ما حذا بالكثيرين إلى الأخذ على عاتقهم نشر الوعي بين الأفراد-المستخدمين، لاسيما وأنًّ الجماعات والكتل المجتمعية عادةً ما تميل إلى تصديق الآراء الأكثر انتشارًا في الحياة اليومية المُعاشة، بغض النظر عن صحتها. وإحدى أدوات التّوعية، التي جرى استخدامها والتي تحمل الوجهين، الخادع والصّادق على حدٍ سواء، هي: السّينما.
السّينما: سلاح ذو حدّين
تُزاوِج السّينما بين عالمين، واحدٌ يضلل المشاهد الجالس والمحدّق في الشاشة أمامه، والآخر يأخذ بيده إلى حقول الوعي لاستدراك الحقائق والالتفاف حول العقل النقدي وإحداث الصدمة الإيجابية فيه.
وقد مرّت السّينما في عالميها بتطورات عديدة، ولا تزال. واستُعملت في هذا السّياق، لأهداف كثيرة: للترفيه، وجني الأرباح من شبابيك التذاكر، ولتوصيل الرسائل السياسية والإشارات المقصودة، عبر الأنظمة الحاكمة وذلك بهدف تمرير أفكارها والترويج لأيديولوجياتها. فعلى سبيل المثال، في الحقبة الهتلرية، اشتهر السياسيّ النازيّ الألمانيّ بول يوزف جوبلز بالعمل على تسييس الفن وتوظيف الثقافة والفلسفة بما يتناسب مع خطاب الزعيم والقائد هتلر وأفكار الحكم الشمولي. واستُخدِم الفنانون والمبدعون والمثقفون كأداة لدعم شرعية الحكم النازي الذي ساد في ألمانيا آنذاك. وذاع صيت المخرجة الألمانية والفنانة ليني ريفينشتال، لِما قامت به، أثناء الحكم النازي من إصدارات للأفلام المساندة له، المضلِلة للجمهور، وقد عملت بأقصى جهودها إلى مسح البشاعة التي ارتكبها النازيون بحق أبناء شعبهم، وشعوب آخرين.
إضافة لهذا الهدف الذي يرتجيه الساسة من السينما، والذي يطول الحديث عنه، يمكن استخدام الأخيرة لتسليط الضوء على قضايا تشغل الرأي العام، أو لنشر التوعية وللتنبيه عن مخاطر معينة، مثل خطر التّضليل الذي لا يمكن غضّ النظر عنه لما له من مآلات قد تلحق الكوارث بالمجتمعات.
ونذكر من بين الأفلام التي ناقشت مسألة التضليل والتشويش الإدراكيّ فيلم:
ضوء المصباح gaslighting: الفيلم المستوحى من مسرحية باتريك هاملتون
في أربعينيات القرن الفائت، عُرض للمرة الأولى فيلم مصباح الغاز المستوحى من مسرحية الكاتب والروائي الإنجليزيّ باتريك هاملتون، وقد لاقى استحسانًا واسعًا من قبل الجمهور، وضجة كبيرة في أوساط المثقفين والعلماء، حتى دخل مصطلح مصباح الغاز في الطب النفسي، في الثمانينيات لتعرّفه رابطة علم النفس الأميركية بأنه "تلاعب عقلي تتم ممارسته بتشكيك شخص في الفهم والحكم على واقعه وتجاربه، وهو جعل شخص يتساءل عن استيعابه للأمور وشعوره بالأشياء من حوله وغالبًا ما يكون قصديًا".
وتدور أحداث الفيلم حول زوجين يعيشان معًا في منزلهما، وفيما يعمد الزوج إلى تخفيض أضواء مصابيح الغاز في البيت لإضاءة مصابيح العلية أثناء بحثه الليلي فيها، وتغيير إضاءة لمبة الغاز باستمرار، عدا عن قيامه بتغيير أماكن الأشياء وإصدار أصوات غريبة، لتبادر الزوجة بسؤاله عن هذه التغييرات، فما يكون منه إلا أن ينكر الأمر باستمرار، ويرمي التهم عليها بأنها تتخيل الأمر، حتى يدفعها إلى الجنون، عبر تصديقه بالفعل أنها فقدت عقلها في نهاية الأمر.
أما عنوان الفيلم ((gaslighting وأحداثه التي ارتبطت بمصطلح "التلاعب بالعقول" فهي من أشكال التلاعب النفسي الذي يمارسها المُتلاعب أو المعتدي بهدف زرع بذور الشكّ في عقل الضحية، ما يجعلها تشكّ في إدراكها، ذاكرتها وسلامتها العقلية، وهي تقنية خبيثة للخداع والتي تؤدي إلى التشويش الإدراكي.
التشويش الإدراكي:
يتميز المتلاعب كما رأينا أعلاه في أحداث الفيلم، بأنه شخص ذكيّ جدًا، وخبيث وحريص ألا تجد الضحية دلائل ضده، لينجح بدوره في التّلاعب بعقل المستهدف والعمل على إنبات الثقة الكاملة فيه، لتصديق كل ما يتفوه به وكل ما يفعله. ويستخدم أمام الضحايا أساليب متعددة مثل أسلوب الإنكار، حيث أنها وسيلته الأساسية في تلاعبه، فيستعير من معجمه اللغوي الخاص لتشويش إدراك وفكر الماثل أمامه، عبارات كـ "لم أفعل هذا أبدًا، لا ليس صحيحًا، لا ليس هناك أصوات" ويزيد من الاتهامات لكي يكرسّ للشخص الضحية أفكارًا يبدو من خلالها فعلًا أنه شخص موهوم ومأزوم ومريض.
ويستخدم المتلاعب أيضًا التشكيك ليُفقد الضحية القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال، وبين الصواب والباطل، فيعمل على اختراق عقل الضحية لتبدأ رحلتها في الشك بكل ما يدور حولها وما تشعر به وما تفهمه.
ومن الأساليب الخفية التي يتبعها أيّ مُتلاعِب أثناء المواجهة والاصطدام، محاولته جر الأحداث وروايتها بشكل يخدمه تمامًا، ونقل تركيز الضحية إلى أحداث أخرى تدعّم من روايته و تعمل على تشتيتها، وإن كان المتلاعب يعمد إلى تقزيم الأمور التي تعني الشيء الكثير بالنسبة إلى ضحيته، فهو يهوّل أمورًا أخرى لبرهنة أنَّ الضحية غير قادرة على الفهم الصحيح، وعلى ذلك نجد أن المتلاعب شخص غير مريح، قد تشعر الضحية بعدم ارتياح وحالة عارمة من الارتياب، لكنها لا تستطيع تحديده أو تسميته، مما يعني أن هنالك تلاعب من نوعًا ما. ومن المهم معرفة أن التشويش الإدراكي قد لا يحدث بين الفينة والأخرى، إنما قد يتطلب وقتًا جيدًا لإعادة ترتيب البيانات في عقل الضحية من قِبَل المتلاعب، كي يكون في هذه الحالة المصدر المعلوماتي الوحيد بالنسبة لها، ولكي تفهم أي شيء يدور من حولها، لن يكون أمامها إلّا العودة إليه.
المصادر والمراجع