يطرح الكاتب لي ماكنتاير، في كتابه (ما بعد الحقيقة)، تساؤلات حول ما طرأ على القرن الحادي والعشرين في ظلّ هيمنة مواقع التواصل الاجتماعيّ وانتشار المعلومات المضللة والأخبار الزائفة، وما بات يسمّى بالحقائق البديلة.
اعتُبر مصطلح "ما بعد الحقيقة" من الكلمات المنافسة في القائمة القصيرة لإدراجها في قاموس أكسفورد عام 2016. ونظرًا لتكرار استخدامه، خاصّة في الانتخابات الأميركية الرئاسية، اختير كمصطلح العام حينها، لأنّه يعبّر عن زمن تعتيم الحقائق، وانتشار التضليل والكذب.
يعرض لي ماكنتاير في الفصل الأول الذي جاء بعنوان “ماذا تعني ما بعد الحقيقة؟” جذور هذه الكلمة في النقاشات الأكاديمية وبين خبراء التكنولوجيا، ويوضح أنّ الحاجة قد برزت لاستخدامها حين شهدت البشرية تغيّرات كبيرة في المشهد الإعلامي.
ويرى صاحب الكتاب أنَّ "ما بعد الحقيقة" ليس مصطلحًا غامضًا، كما يرى أيضًا أنه لا يمكن اعتباره مصطلحًا سهلًا يخلو من الصعوبة بالتعريف، فهو ليس محصورًا بحدثٍ سياسي أو شخصية بارزة كترامب على سبيل المثال، بل هو شامل ويضم جميع الجوانب التي تغلّف الأسئلة حول الحقيقة.
ونظرًا لهذه التغيرات التي يشهدها العالم يحاول لي ماكنتاير في كتابه، استكشاف العوامل التي أدت إلى ظهور حالة ما بعد الحقيقة، فبرأيه إنّ ظواهر البريكستيرز (مؤيدو انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي)، واليمين البديل (جماعة تدعم سيادة الرجل الأبيض في الولايات المتحدة وتؤمن بنظريات المؤامرة.)، والانتخابات الأميركية تبدو شديدة الارتباط في هذه الحالة، لكنّها ليست سبب ظهورها، بل هي نتيجتها.
ظاهرة إنكار العلم كتمهيد لفهم ما بعد الحقيقة
يعود المؤلف إلى خمسينيات القرن العشرين حين ازدادت خطورة إنكار العلم، وأيقنت الشركات الربحية المعنية بإنتاج التبغ، أنَّ لديها مصلحة في زيادة الشكوك حول صلة تدخين السجائر بسرطان الرئة. إذ هدف لي ماكنتاير بهذا العرض، إلى تسليط الضوء على حالة إنكار مشكلة التغير المناخي التي يعيشها البعض حاليًا كمحاولة لفهم ظاهرة ما بعد الحقيقة.
ويعرض لي ماكنتاير بعض المؤلفات المهمّة في كتابه مثل كتاب شركة الأكاذيب المتحدة لآري رابين هافت، الذي يستعرض فيه المؤلف، العلاقة بين المصالح الاقتصادية وسياسة ما بعد الحقيقة، وخاصة حادثة عام 1953، حين اجتمع رؤساء شركات التبغ الكبرى في فندق بلازا في مدينة نيويورك، بشأن إنشاء لجنة استحدثها رئيس الاجتماع جون هيل، من أجل ابتداع أوراق بحثية مزيفة تعارض تلك الحقيقة التي تقول إنَّ تدخين السجائر يسبب السرطان.
ونجحت اللجنة وقتذاك بإقناع الجماهير أنَّ ما توصل إليه العلماء لم يحدّد أي علاقة نهائية سببية بين التبغ وسرطان الرئة. واستمرت هذه اللجنة في عملها إلى أن تمّ إيقافها عام 1998، بدعاوٍ قضائية عرّضت أرباحها للخطر.
ويذكر لي ماكنتاير هنا، تاريخ التكتيكات التي لفقتها هذه الشركات عبر الاستعانة بعلماء انضموا إلى لجنة صناعة التبغ وكيف أصبح من أساسيات عملها التسلح بإنكار العلم.
التحيزات المعرفية وعلاقتها بظاهرة ما بعد الحقيقة
يشير لي ماكنتاير، إلى نزعة دفاع الأنا، ويعرّفها بأنها أحد المفاهيم السيكولوجية التي يسعى خلالها الفرد لاجتناب القلق الذي تثيره بعض القضايا التي تختلف مع معتقداته وإيمانه. وغالبًا ما يُقدِم الفرد على تجنّب القلق الناجم عن تغيير المعتقدات، بطريقة عقلانية أو غير عقلانية.
ولتوضيح الفكرة، يستعين المؤلّف، بكتاب نظرية التنافر المعرفيّ، للكاتب ليون فستينجر، الذي يوضح فيه كيف أنَّ الفرد يشعر بالتوتر والفزع حين تتعرض سلوكياته وتوجهاته لاختلال من عوامل خارجية، ويوضّح ذلك بتجربة طلبَ فيها من بعض المشاركين أن يؤدوا بعض الوظائف والمهام المملة جدًا مقابل دولار واحد، والبعض الآخر مقابل عشرين دولارًا ثم طلب من كلّ فرد-مشارك أن يخبر الفرد الآخر الذي سيقوم بالمهام ذاتها أنها كانت ممتعة.
دُهش ليون من نتائج التجربة، فقد تبين أنَّ المشاركين الذين تلقّوا دولارًا واحدًا عبّروا عن استمتاعهم أكثر بهذه المهام. إذ غيّروا قناعاتهم بشأن هذه الوظيفة المملة وقالوا إنها ممتعة من أجل تخفيف من حدّة التنافر المعرفي.
وحلّل ليون فستينجر التنافر المعرفي في كتاب آخر له بعنوان جماعة القيامة، عندما عرض قصة جماعة المريدين الذين كانوا يؤمنون بأنَّ قائدتهم دوروتي مارتن، تتواصل مع كائنات فضائية عبر رسائل مشفرة، وحدها تستطيع فهمها. وتتضمن هذه الرسائل أنَّ العالم سينتهي في الحادي والعشرين من شهر ديسمبر/كانون الأول عام 1954 وأنَّ هذه الكائنات ستنقذها وتنقذ شعبها.
وصدّق أعضاء هذه الحركة القصة، فباعوا ممتلكاتهم وصعدوا إلى قمة الجبل بانتظار الكائنات الفضائية، وعندما لم تظهر أي من هذه الكائنات ولم ينتهِ العالم، تعرّضَ هؤلاء لتنافر معرفي مخيف، تغلبت عليه قائدتهم حين وجهت لهم خطابًا يقول “كان إيمانكم ودعاؤكم قويًّا للغاية حتّى أنَّ الكائنات الفضائية قررت إلغاء خططها. لقد أنقذتم العالم!”.
وفي سياق متّصل، ينبّه لي ماكنتاير أنَّ هذه اللاعقلانية في تصديق الحدث، يجري تعزيزها عند الفرد، حين تؤمن بها الجماعة كاملة ولو أنَّ شخصا واحدًا فقط منهم قد آمنَ بما تقوله قائدة جماعة يوم القيامة دوروتي مارتن، لكان مصيره الانتحار أو التراجع والاختباء.
يدعم لي ماكنتاير ملاحظته هذه، بورقة بحثية نشرت عام 1955 بعنوان “الآراء والضغط الاجتماعي" لسولومون آش، الذي كشف أنَّ ضغط الجماعة يؤثر على معتقدات الفرد، بحيث من الممكن أن يرفض الأدلة العلمية الصحيحة فقط لأنها لا تتناغم مع مجموعته ومعتقداتها.
وفي تجربة أخرى يعرضها المؤلف، أجراها عالم النفس المعرفيّ بيتر واسون عام 1960، في ورقته البحثية المعنونة بـ "عن الفشل في استبعاد الافتراضات في مهمّة تصويرية"، تظهر فكرة التحيز التأكيدي في النقاشات الدائرة حول ظاهرة ما بعد الحقيقة.
ويقول لي ماكنتاير إنّه على الرغم من إحاطة العلماء بجميع التحيزات المعرفية، لم تلمع ظاهرة ما بعد الحقيقة إلا بظهور عوامل أخرى مثل ثورة مواقع التواصل الاجتماعي.
تحيزات معرفية مكتشفة حديثًا
في جولة يقوم بها المؤلف على كتاب “سوء التصرف: صنع الاقتصاد السلوكي” يكشف عن تحيزات معرفية واضحة في صنع القرار البشري، فيأتي على ذكر سلوك نسيان مصدر المعلومة، إذ يحدث في حياة الفرد اليومية، أن يذكر بعض المعلومات لكنه يعجز عن تذكّر مصدرها، ولهذا صلة كبيرة بالطريقة التي تتشكل فيها معتقداته. كما أن معتقدات الفرد مرتبطة بتأثير التكرار، إذ يميل إلى تصديق المعلومة عند تكرارها مرات عدّة.
ومع ظهور الدراسات الجديدة انكشفت تحيزات تأثير النتائج العكسية (Backfire effect) وتأثير داننج كروجير (Dunning-Kruger). ولهذين التحيزين جذور من مفهوم الاستدلال المدفوع بالرغبة والعاطفة( Motivated reasoning). ويعني هذا المفهوم أنَّ الفرد عندما يشعر بالتوتر يميل إلى توفيق معتقداته بما يتناسب مع مشاعره.
ويشرح لي ماكنتاير استنادًا إلى دراسات تجريبية أجراها برندان نيهان وجاسون رايفلر، أنّه عندما تمّ تزويد المشاركين المتحزّبين بدليل حول خطأ أحد معتقداتهم السياسية، فإنهم تشبثوا بمعتقداتهم الخاطئة ورفضوا التصديق، على الرغم من وجود الدليل أمامهم. واكتشف كلا الباحثين أنه في بعض الحالات قد يؤدي عرض الدليل المضاد إلى تشبث الفرد أكثر بمعتقداته الخاصّة، وهذا يلخّص تأثير النتائج العكسية.
أمّا تأثير داننج كروجير والذي يُسمى أيضًا بتأثير الغباء المستحكم، فهو تحيز معرفي "يتعلق بالطُرق التي يبدو فيها المشاركون أصحاب القدرات البسيطة عاجزين عن إدراك عجزهم."
وسائل التواصل الاجتماعي في عصر ما بعد الحقيقة
يعتقد لي ماكنتاير أنّ مع ظهور شبكة الإنترنت وتدفق الأخبار الرقمية، وجدت الصحافة المعاصرة نفسها أمام تحدّ كبير، مبرزًا دور الأخبار الزائفة كمسبّب لإحياء الصحافة الصفراء وصعودها، ويقول لي ماكنتير عن الأخبار الزائفة إنها "ليست مجرد أخبار خاطئة، بل إنها خاطئة عن عمد وجرى اختلاقها لأسباب معينة".
وبالعودة إلى انتخابات أميركا عام 2016، يوضح المؤلف أنَّ خلق الأخبار الزائفة كان بهدف إثارة حساسية واستفزاز الناخبين حتّى ينقروا على العناوين المتداولة، وبهذه الطريقة يحقّق مختلقو المعلومات المضللة أرباحًا طائلة مما يُعرف بـ"طُعم النقرة".
ويشير المؤلف إلى أنّ الهدف من وراء اختلاق المعلومات الخاطئة ليس جني المال فقط، بل أيضًا لاستغلال الجماهير سياسيًا والتلاعب بمعتقداتهم وبمشاعرهم.
وقد لاحظ مختلقو المعلومات المضللة كما يذكر لي ماكنتير، أنَّ القصص الإيجابية (المزيفة) التي كانت تُعرض عن الرئيس الأميركي السابق ترامب، كانت تحقق أرباحًا من خلال النقرات تفوق القصص الإيجابية المختلقة عن هيلاري كلينتون والعكس صحيح، فإنَّ الأخبار والمعلومات السلبية عن هيلاري كانت تحصّل معدلًا أعلى في المتابعة.
وفي 25 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016، نشرت صحيفة ذا نيويورك تايمز تقريرًا بعنوان “داخل مصنع التضليل لإنتاج الأخبار الزائفة: الدخل هو أصل الموضوع”، عرضت فيه قصة مختلق للأخبار المزيفة في الانتخابات الأميركية، وهو طالب جامعي يُدعى بيقا لاتسابز.
وفقًا للتقرير، فقد لاحظ هذا الطالب أنّ نشر المعلومات الملفقة الإيجابية عن كلينتون لم يجنِ له مالًا كما جلبت القصص ذاتها الذي استخدمها ولكن منسوبة لدونالد ترامب. وذكرت الصحيفة أنَّ بيقا جنى آلاف الدولارات من عمله هذا.
وبعد شهرين، نشرت الصحيفة ذاتها، مقابلة مع خريج من جامعة ديفيدسون كوليدج يُدعى كاميرون هاريس ونشر على موقعه "كريستيان تايمز"، العنوان التالي: “العثور على عشرات الآلاف من الأصوات المزورة لصالح هيلاري كلينتون"، فجنى خمسة آلاف دولار في أيام. إذ قال في هذا السياق لصحيفة ذا نيويورك تايمز “في البداية صُدمت إلى حدّ ما، من سهولة تصديق الناس للقصة. كان ما فعلتُ أشبه تقريبًا بتجربة سيكولوجية".
ختامًا، يورد صاحب الكتاب، بعض النصائح التي يجب أن يحصّن بها الفرد نفسه من ظاهرة ما بعد الحقيقة، أهمها: أنّه على الفرد دومًا مقاومة المعلومات المضللة والكاذبة وأن يتصدى لكلّ محاولة تشوّه القضايا المتعلقة بالحقائق.
المصدر