تعدّ قصة ظهور حركة "الطيور ليست حقيقية" مثالًا قويًّا على كيفية انتشار نظريات المؤامرة والمعلومات المضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف يمكنها التأثير على معتقدات وسلوكيات الناس والتحكم بهم، فما بدأ كمزحة سرعان ما تحول إلى حركة يتابعها الآلاف في أنحاء الولايات المتحدة، تبيع المنتجات الخاصة بها، وتنشئ النوادي الجامعية وتعقد الاجتماعات وتنظّم الاحتجاجات.
يراها البعض مثالًا على تأثير نظريات المؤامرة في المتابعين، ويقدمها أصحابها أحيانًا كمثال على التصدي لهذه النظريات.
فماهي قصتها؟
مزحة تصنع نظرية مؤامرة
بدأ كل شيء بالصدفة في عام 2017، في مدينة ممفيس الأميركية، عندما كان الشاب بيتر ماكندو يتمشى مع رفاقه، فإذا بمسيرة احتجاجية تمرّ من أمامهم، فكّر حينها ماكندو بأنّه من المضحك أن يدخل شخص بشعار مختلف داخل تجمع يمثّل قضية موحّدة، فكتب ثلاث كلمات "عبثية" على ظهر ملصق أزاله من حائط أمامه: "الطيور ليست حقيقية". ولكنّ المفاجأة كانت عندما بدأ الناس ينتبهون إليه ويسألونه عن الأمر.
حينها، قرر ماكندو استغلال الفرصة، واختلق معلومات حول الأمر خلال ثلاث دقائق، وأجابهم بأنّ الحكومة الأميركية قتلت الطيور واستبدلتها بطائرات استطلاع من دون طيار تشبه الطيور الحقيقية تمامًا للتجسس على الناس، مبتكرًا نظرية مؤامرة جديدة.
صوّر بعض الأشخاص ماكندو ونشروا الفيديو على "فيسبوك" من دون علمه، ولاقى انتشارًا واسعًا خاصة بين المراهقين.
في مدينة ممفيس، وبعد انتشار الفيديو، سرعان ما ظهرت رسومات على الجدران ومعها شعار "الطيور ليست حقيقية"، وبدأت تظهر مقاطع مصوّرة في وسائل التواصل لأناس يهتفون "الطيور ليست حقيقية" وصنع الناس ملصقات تحمل هذا الشعار. وتناقلت وسائل الإعلام المحليّة الأمر على أنّه حقيقيّ.
بداية تطوّر نظرية الطيور ليست حقيقية
قرّر ماكندو تطوير الفكرة أكثر واستغلال الأمر، فأنشأ فريقًا صغيرًا خلال 24 ساعة، واختلق هو وكونور جايدوس، أحد أعزّ أصدقائه، تاريخًا زائفًا للحركة، ولفّقا نظريات مفصلة وأنتجا وثائق وأدلّة مزيفة لدعم مزاعمهم، ونشراها في الموقع الخاص بهم. والتقطا مقاطع فيديو بكاميرا قديمة ليظهر وكأنّ الفيديو تقرير من الخمسينيات، وفبركا وثائق ورسائل بريد إلكتروني لدعم المخطط.
فكانت المعلومة التي يردّدونها في كلّ مكان: "الحكومة الأميركية قتلت أكثر من 12 ألف مليار طائر، ما بين عامي 1959 و2001 واستبدلتها بطائرات استطلاع من دون طيار للتجسس على السكان تتطابق في شكلها مع الطيور الأصلية، وهذه الطيور المزيفة تقف على خطوط الكهرباء لإعادة شحن نفسها، وإنّ برازها الذي يسقط على السيارات ما هو إلّا أجهزة تتبع سائلة".
وبكتابة تاريخ قصة استبدال الطيور صنع ماكندو وأصدقاؤه خلفية درامية أكثر تفصيلًا يمكن مشاركتها ومناقشتها مع الناس، للترويج للنظرية.
اهتمّ أفراد الفريق بفكرة أنّ وسائل التواصل الاجتماعي تقدّم طريقة جديدة لرواية القصص، وأنّ القصص الغريبة تظهر باستمرار أمام الجميع طوال الوقت، ووظّفوا وسائل التواصل في الحشد لنظريتهم.
بعد ذلك، استغلّ الفريق المؤسّس انتشار النظرية السريع وبدؤوا يبيعون القمصان والسلع التي تحمل شعارها، وأصبحوا يحقّقون أرباحًا كبيرة، وتطوّر الأمر لتأسيس نوادٍ في الجامعات وإقامة الندوات والاجتماعات.
الجدير بالذّكر أنّ أغلب متابعي الحركة، بحسب ماكندو، كانوا من الجيل زد وجيل ألفا، أي من الأجيال التي نشأت على الإنترنت، لذلك يمكن القول إنّ الحركة استمدّت شعبيتها من الأجيال الشابة التي نشأت على وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، وقد ساهمت الفكرة وطبيعتها الساخرة في انتشارها السريع بينهم.
الاحتجاج أمام مقرّ تويتر لتغيير شعار الطائر
في عام 2021، قرّرت الحركة الاجتماع أمام مقرّ شركة تويتر في سان فرانسيسكو، لمطالبة الشركة بتغيير شعارها، فعلّقوا المنشورات الورقية، ووجهوا دعوات عبر البريد الإلكتروني إلى الاعتصام.
ثمّ توجّهوا إلى مقر شبكة سي إن إن، من أجل الاحتجاج على وسائل الإعلام التي لا تهتمّ بهذه القضية، وبهذه الطريقة استطاعت الحركة اكتساب آلاف المتابعين.
“الطيور ليست حقيقية" تجربة للتصدي إلى نظريات المؤامرة؟
بقي ماكندو يلعب شخصية مؤسس حركة "الطيور ليست حقيقية"، ويرفض القول صراحةً إنها مزحة مدة خمس سنوات، قبل أن يكشف أنّ الأمر ساخر خشية أن يعتقد الناس أن الطيور عبارة عن طائرات من دون طيار حقًا.
وأوضح لصحيفة ذا نيويورك تايمز عام 2021، "لقد أصبحت تجربة في التضليل". وأضاف “تمكنّا من بناء عالم خيالي بالكامل نشرت عنه وسائل الإعلام المحلية على أنّه حقيقي وتساءلت حوله الجماهير”.
وصرح أفراد الفريق في مقابلة مع الصحيفة أنّ "الطيور ليست حقيقية" هي “حركة اجتماعية ساخرة هادفة، في عالم ما بعد الحقيقة الذي تهيمن عليه نظريات المؤامرة عبر الإنترنت”.
وأكدوا أنّ هدفهم الأساسي هو السخرية من المعلومات المضللة، وأنها محاولة الجيل زد لقلب الموازين عن طريق السخرية.
وقال ماكندو مؤسس الحركة إنه تعامل وفريقه مع الأخبار الكاذبة منذ سنوات، وهم على دراية بالخط الذي يتعين عليهم السير فيه، فهم عندما ينشرون الأخبار المزيفة التي يختلقونها يتأكدون أنّها سخيفة للغاية بحيث لا يعتقد أحد أنها صحيحة.
وأشار إلى حرصهم على عدم تضمين أي تفاصيل قد تجعل الأمر يبدو وكأنه قد يكون واقعيًا، وإدراكهم حقيقة أنهم بحاجة إلى الحفاظ على تمييز واضح بين ما هو حقيقي وما هو كاذب.
وأضاف ماكندو "إنّ هذه الحركة مساحة آمنة للناس للالتقاء والتعامل مع استيلاء المؤامرة على أميركا. إنها طريقة للضحك على الجنون بدلًا من التغلب عليه".
وقالت كلير كرونيس، وهي مسؤولة الحركة في بيتسبيرغ "إنها طريقة لمكافحة المشاكل في العالم عندما لا يكون لديك طرق أخرى لمكافحتها".
وأوضحت “طريقتي المفضلة لوصف ما تفعله المنظمة هي محاربة الجنون بالجنون”.
وختم ماكندو بأنّه تعمّد نشر معلومات مضللة على مدار السنوات الفائتة لهدف محدد، وأنهم "يضعون مرآة أمام أميركا في عصر الإنترنت".
حملة “الطيور ليست حقيقية” تتهم مؤسسات إعلامية بفبركة المقابلات
وبعد أن نشرت صحيفة ذا نيويورك تايمز تقريرها في ديسمبر/كانون الأول عام 2021 بالإضافة إلى العديد من المقابلات المصوّرة التي أقرّ فيها مؤسسو الحملة أنّها مجرد حملة ساخرة، استمرّت حسابات الحملة على مواقع التواصل بمهاجمة وسائل الإعلام والقول بأنّها فبركت المقابلات معهم وكذبت عليهم.
ونشرت حساباتهم العديد من مقاطع الفيديو التي ادعوا فيها أنهم يستضيفون خبراء في التزييف العميق وأنّ المقابلات مجرد خدعة، ولكنّ المدقّق في هذه المقاطع المصوّرة يرى أنّها تنطوي على أسلوب ساخر.
وفي 19 فبراير/شباط 2023، نشرت قناة TEDx Talks الشهيرة في قناتها على موقع يوتيوب مقطع فيديو يوثق استضافة مؤسسَي الحركة ماكندو وجايدوس، الذين أكّدا مجدّدًا أمام الجمهور أنّ الحركة ساخرة، وشرحا بالتفصيل ما فعلاه لزيادة انتشارها.
حين تتحول السخرية إلى تضليل
إنّ انتشار نظرية "الطيور ليست حقيقية" يسلّط الضوء على كيفية انتشار المعلومات المضللة والمنشورات الساخرة ونظريات المؤامرة في وسائل التواصل الاجتماعي، وبالأخص عند تقديمها بطريقة تلفت الانتباه.
تهدف السخرية في كثير من الأحيان إلى نقد المجتمع أو الأفراد للكشف عن العيوب. ويميّز المنشورات الساخرة أنّها تستخدم المبالغة لإثبات وجهة نظر أو للسخرية من موضوع معين.
ويمكن أن تتحول الأفكار الساخرة إلى مصدر للمعلومات المضللة. وفي بعض الحالات تحوّلت إلى نظريات مؤامرة، فعندما تنتشر مثل هذه المنشورات بشكل فيروسي، يمكن أن يأخذ بعض الأشخاص المحتوى الساخر على محمل الجد، فيصدقوه على أنه حقيقيّ، ويصبح من الصعب على الناس التمييز بين الحقيقة والكذب.
ويحدث كثيرًا أن تنطلق الإشاعة من موقع يبدو كمصدر إخباري أو موقع ويب رسمي. مما يزيد من تصديق الناس للخبر، من دون الانتباه إلى وصف الموقع بأنه ساخر.
وتتعمد أحيانًا بعض المنشورات الساخرة نشر معلومات مضللة وتتلاعب بالحقائق من أجل صُنع الفكاهة، مما يؤدي إلى نشر المعلومات الكاذبة.
أخبار انتشرت على أنها حقيقية في المحتوى العربي لكنّ أصلها موقع ساخر
من المهم عند تناقل الأخبار من المواقع الإلكترونية، مراجعة وصف الموقع والتأكّد أنّه ليس ساخرًا، إذ تم تحويل بعض الأخبار التي نشرت في مواقع أجنبية ساخرة، إلى أخبار حقيقية في المواقع العربية. ومن بينها
*هروب بعوض ملقّح بالفياغرا من مختبر ووهان
انتشر خبر في مواقع إخبارية وصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي، عام 2021، يدّعي أنّ آلافًا من البعوض الملقّح بعقار الفياغرا هربت من مختبر ووهان الصيني.
تحقق "مسبار" من الادّعاء المتداول ووجد أنّه مضلّل، إذ نُشر الخبر لأول مرة في موقع يدعى World News Daily Report، يصف نفسه بأنه موقع ساخر وغير حقيقيّ، وأنّ أي تشابه بين شخصيات مقالاته والواقع غير مقصود بل محض صدفة.
*الصلعان يولدون الطاقة الشمسية
انتشر خبر يدّعي أنّ بحثًا علميًّا أكّد أنّ الرجال الصلعان سيتمكنون قريبًا من تحويل أشعة الشمس إلى طاقة كهربائية، ولكنّ تحقّق "مسبار" أثبت أنّه ساخر. وتبيّن أنّ من نشرَه للمرّة الأولى هو موقع There is news، وهو موقعٌ الكترونيّ متخصصٌ بنشر محتوىً خياليّ وأخبار مختلقة للتسلية، إلّا أنّ الكثير من المواقع الالكترونية ومستخدمي وسائل التواصل نشروهُ على أنّه إنجاز علمي صحيح.
*خبر تعليق مسؤول برازيلي فاسد على عمود الإنارة
انتشر هذا الخبر بالتزامن مع المظاهرات في العديد من المدن البرازيلية، احتجاجًا على نفقات الحكومة خلال استضافة وتنظيم كأس العالم في يونيو 2014.
ولكن الصورة نشرت في الموقع البرازيلي g17.com في 2014، ويشير الموقع إلى أنه ساخر ويختص بنشر الأخبار المُختلقة بهدف السخرية.
اقرأ/ي أيضًا
أساليب تضليل الجمهور وخدعة "الإعلام الذي لا يكذب"
التمويه الأخضر وأساليب الشركات في التضليل البيئي
المصادر: