وسع الاحتلال الإسرائيلي سطوته في الأرضي الفلسطينية المحتلة من خلال أنظمة التعقب وتطبيقات التجسس التي تنتجها الشركات الأمنية الإسرائيلية.
ولتسهيل الوصول إلى معلومات دقيقة حول الفلسطينيين وقادة المقاومة، كانت البداية بجمع المعلومات عبر توظيف شبكات تجسس تعمل لصالح وكالة الاستخبارات والمهمات الخاصة "الموساد"، وفق اعترافات وردت في كتاب "جواسيس جدعون، التاريخ السري للموساد" للكاتب جوردون توماس. يكشف توماس في كتابه أن العقيدة الأمنية الأولى للموساد هي "إسرائيل أولًا وأخيرًا ودائمًا وأبدًا" دون الاكتراث بالوسيلة التي يتحقق فيها إخضاع الفلسطينيين، حتى مع تزييف الحقائق ونشر الأكاذيب وإذاعة المعلومات الزائفة من خلال جواسيس الموساد، لإضعاف عزيمة الشارع الفلسطيني وتخويفه.
يذكر الكاتب أن دولة الاحتلال أسست نواة لفرقة استخباراتية كانت من ضمن أفراد منظمة الهاجاناه/هاغانا، لنشر الأكاذيب والمعلومات المزيفة، ومن ثمّ إنكار هذه الأفعال. جمع الموساد الإسرائيلي بيانات حول القيادي الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) من خلال زرع عميل/جاسوس مقرّب من الوزير، وهو أحد أفراد شبكة تجسس في تونس، ليقوم العميل بتقديم معلومات استخباراتية للوحدة 504 التابعة للموساد وتنفيذ عملية الاغتيال.
أنظمة الرقابة والتعقب ضد نشطاء فلسطينيين
انتقل الاحتلال الإسرائيلي من مرحلة جمع البيانات وترويج البروباغندا من خلال العملاء، إلى مرحلة الاعتماد على التقنيات الحديثة وتقنيات الذكاء الاصطناعي والتعرف على الوجه، بهدف مراقبة تحركات الفلسطينيين وتخزين بياناتهم ونشر الأخبار الكاذبة على شبكات التواصل الاجتماعي.
تذكر صحيفة واشنطن بوست في مقال نشر بعنوان "إسرائيل تزيد من مراقبتها للفلسطينيين ببرامج التعرف على الوجه في الضفة الغربية"، أن جيش الاحتلال عزز من أنظمة المراقبة وكاميرات التعقب في الضفة الغربية، عبر تفعيل أجهزة التعرف على الوجه ووضعها على زوايا الأبنية ومفترقات الطرق وربطها بنظام تعرّف موحد عبر كامل الأراضي المحتلة.
طوّرت دولة الاحتلال من ترسانتها الإلكترونية بالاعتماد على الوحدة 8200 في الموساد، والتي يمكن مقارنتها بوكالة الأمن القومي الأميركية التي عملت على تنفيذ مشاريع خاصة بتكنولوجيا المعلومات وعمليات الأمن السيبراني الهجومية والدفاعية والحرب الإلكترونية في الأراضي المحتلة.
إلى جانب هذه الوحدة، تعمل أكثر من 400 شركة للأمن السيبراني في إسرائيل، وهذا يجعلها أكبر مركز للأمن السيبراني خارج الولايات المتحدة، أي أن تل أبيب ثاني أكبر وادي سيليكون في العالم بعد كاليفورنيا. وبحسب تقرير أصدرته فوربس فإن الاستثمار في شركات الأمن السيبراني وتكنولوجيا المعلومات، بلغ حوالي 17.8 مليار دولار حتى عام 2021، أي ضعف حجم الاستثمار في القطاع نفسه لعام 2020.
بنيت صناعة الأمن السيبراني في دولة الاحتلال على مجموعة من العوامل، بما في ذلك خبرتها العسكرية، وانتشار ثقافة ريادة الأعمال، واستثمارها في البحث والتطوير، لا سيما وأن جيش الاحتلال يعتمد عليها في تطوير ترسانته العسكرية و كشف الأخطار المحتملة من دول المنطقة. وفي إشارة إلى التقرير ذاته، فإن لدولة الاحتلال تاريخ طويل في تطوير التقنيات، بما في ذلك حلول الأمن السيبراني، حيث أمنت شركات الأمن السيبراني والمراقبة وشركات تكنولوجيا المعلومات مناخًا ملائمًا في البيئة الفلسطينية سواء في الضفة الغربية او أراضي 48 أو قطاع غزة، لبدء التشغيل واختبار منتجات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي.
الوحدة 8200
وكغطاء أمني لهذه الشركات، تعدّ الوحدة 8200 الواجهة الأمنية الإلكترونية الأولى وواحدة من الإدارات القديمة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، ويعمل أعضاؤها في الأصل على تطويع تقنيات الذكاء الاصطناعي في التجسس على الفلسطينيين وقرصنة بياناتهم، ليتم بعدها معالجة هذه البيانات وتنفيذ العمليات العسكرية أو الاغتيالات بعد فلترة المعلومات الواردة من مصادر متنوعة، ومهمتها تزويد حكومة الاحتلال ببيانات وتحذيرات ضد أي عمليات تنفذها فصائل المقاومة الفلسطينية.
بدأ الاحتلال الإسرائيلي بتطبيق أشكال مختلفة من تكنولوجيا المراقبة في الضفة الغربية وأراضي 48. ووظّفت سلطاته كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة CCTV؛ حيث عمدت إلى تركيب العديد من كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة في جميع أنحاء الضفة الغربية. تستخدم هذه الكاميرات لمراقبة وتتبع تحركات الأفراد، وكذلك لجمع المعلومات الاستخبارية عن الفلسطينيين.
تنفذ شركة FLIR Systems وهي المزود الأقوى لكاميرات المراقبة عمليات تركيب أجهزة تسجيل الفيديو والكاميرات الحرارية في المدن والبلدات الفلسطينية بما يضمن تعقب الفلسطينيين ومراقبتهم وتخزين صورهم عبر خوادم بسعة تخزينية كبيرة.
تكمن قوة الكاميرات الأمنية الحرارية بتحويل الليل إلى نهار، مما يمنح المتتبِّعين القدرة على رؤية التهديدات غير المرئية بالعين المجردة. تسهّل هذه الشركة اعتقال الناشطين الفلسطينيين عبر رصد تحركاتهم و تخزينها للرجوع الى هذه البيانات في حال حدوث أية عمليات.
تربط سلطات الاحتلال هذه الكاميرات مع الماسحات الضوئية البيو-مترية حيث أدخلت قوات الاحتلال الإسرائيلي أجهزة مسح ضوئي بيو-مترية في بعض نقاط التفتيش في الضفة الغربية، والتي تستخدم لتحديد الأفراد وتتبع تحركاتهم. يمكن لهذه الماسحات الضوئية التقاط بصمات الأصابع والتعرف على الوجه وبيانات المقاييس الحيوية الأخرى.
تستخدم سلطات الاحتلال الإسرائيلي تقنيات الذكاء الاصطناعي وتقنيات التعرف على الوجه في فلسطين لرصد المشتبه بهم في تنفيذ عمليات الهجوم على المستوطنين، وتتبع حركتهم ورصدهم.
وفي ذات الوقت فإن سلطات الاحتلال تتخذ من الأراضي الفلسطينية ساحة لاختبار آخر ما توصلت إليه شركات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي واختباره على الفلسطينيين قبل بيعها للدول الأوروبية وأميركا، كما الحال في بيع تقنيات التعرف على الوجه في أميركا وتطبيقها في المرافق العامة والساحات وأماكن التجمع الأكثر اكتظاظًا وحركة لسهولة التعقب وبحسب موقع فوربس، فإن أنظمة الأمان والحماية في الملاهي الليلية في ولاية أوكلاهوما تعتمد على تقنية التعرف على الوجه المدعومة من قِبَل شركة المراقبة الإسرائيلية الناشئة "أوستوOosto"، التي كانت تعرف سابقًا باسم "أني فيجن AnyVision" والتي أثارت الجدل عام 2019 بتطويرها للتكنولوجيا المستخدمة في مراقبة الحدود الفلسطينية.
ومؤخرًا، غيرت الشركة اسمها وتحوّل تركيزها إلى حماية المنشآت الخاصة والصغيرة، بما في ذلك النوادي الليلية.
هذه التقنية هي في الأصل من صنع إسرائيلي ويتم اختبارها في الأراضي الفلسطينية، ويذكر الموقع أنه في يوليو 2022، وخلال عملية المراقبة، ظهر مربع أزرق حول وجه فتاة ترتدي كمامة في مركز المراقبة، ثم تحول إلى اللون الأخضر، وهذا يعد إنذارًا لهذا البرنامج.
وعلى الرغم من وجود الكمامات على وجوه الناس، إلا أن خوارزميات تقنية التعرف على الوجه التي توفرها شركة "أوستو" تعتبر بدرجة عالية من اليقين أن الشخص المشار إليه في هذه العلامة الخضراء هو شخص غير مرغوب فيه. وعندما يتم الكشف عن أي شخص مدرج في القائمة المحظورة، يتم التحقق من هويته شخصيًا، وإذا كانوا فعلاً موجودين في قائمة المحظورين، يتم إخطارهم بأنهم غير مرحب بهم وأنهم مدرجون في قاعدة بيانات التعرف على الوجه في النوادي الليلة، ويُطلب منهم مغادرة المكان على الفور.
إسرائيل تحرم الفلسطينيين حقهم في الحصول على الإنترنت
وبحسب تقرير أعدّه معهد الشرق الأوسط في واشنطن، فإن حكومة الاحتلال تسيطر على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) في الأراضي الفلسطينية، وبالتالي تحرم الفلسطينيين من حقهم الأساسي في الوصول إلى الإنترنت ذي السرعة الجيدة والآمن. وضمن مخطط الاحتلال لإبقاء الأراضي الفلسطينية خاضعة لسيطرة تكنولوجيا المعلومات التي تنتجها شركات الأمن السيبراني الإسرائيلية، تعمدت سلطات الاحتلال إبقاء تكنولوجيا الإنترنت للفلسطينيين قديمة، بينما تقوم بالترقية إلى الجيل الخامس من الإنترنت، في الوقت الذي لا يزال الفلسطينيون في الضفة الغربية يستخدمون الجيل الثالث؛ والفلسطينيون في غزة يحصلون على خدمات الجيل الثاني فقط.
يؤدي حرمان الفلسطينيين من الوصول إلى التقنيات الجديدة إلى زيادة سعر الإنترنت من قبل المزوّدين، مع تقليل أمن قنوات الاتصال نتيجة للمراقبة التي تخضع لها الشبكة من قبل سلطات الاحتلال وأدوات التجسس التي تنفذها الشركات الأمنية السيبرانية الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، لدى سلطات الاحتلال القدرة على مراقبة كل محادثة هاتفية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
تستخدم إسرائيل كاميرات المراقبة وطرق المراقبة الأخرى كوسيلة للترهيب، والتي تولد شعورًا مرعبًا بأن النشطاء الفلسطينيين مراقَبون دائمًا، إذ تؤثر كاميرات المراقبة على سلوك الفلسطينيين وتجعلهم أكثر حذرًا. بهذه الطريقة، تراهن سلطات الاحتلال أن تضغط كاميراتها على الفلسطينيين وتمنعهم من تنفيذ العمليات المقاومة عبر ممارسة الضغوطات عليهم بعد نشر فيديوهات تظهر وجوه منفذي العمليات الاستشهادية أو عمليات إطلاق النار، الأمر الذي يشعرهم بالمراقبة الدائمة، وهذا ما يهدد بإحداث مجتمع مجزأ يسوده الشك ويُخضعه الخوف.
الرقابة على المحتوى الرقمي الفلسطيني
يقدم المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي (حملة) معلومات حول التفاعل بين قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والحقوق الرقمية في فلسطين، من خلال تحديد وتفنيد القيود الإسرائيلية المفروضة على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الفلسطينية وآثارها على التمتع بالحقوق الرقمية من قبل الفلسطينيين.
ويذكر تقرير أعدّه المركز بعنوان "الاتصال مقطوع: كيف تسيطر إسرائيل على قطاع تكنولوجيا المعلومات في فلسطين، وأثره على حقوق الإنسان" أن الفلسطينيين يخضعون لمراقبة جماعية تشمل المكالمات الهاتفية ورسائل تطبيقات التواصل الاجتماعي بالإضافة إلى مراقبة المحتوى عبر الإنترنت، وبالتالي فإنهم يتعرضون لانتهاك مجموعة من حقوق الإنسان أقلها التحكم بالمحتوى والحرمان من حرية التعبير، وتقييد الوصول عبر حظر معظم المواقع والتطبيقات وإرسال الفيروسات عبر روابط مقرصنة، واعتراض المكالمات الهاتفية ورسائل البريد الإلكتروني.
أدت سيطرة شركات الأمن السيبراني الإسرائيلية على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الأراضي الفلسطينية، إلى الحد من نموها وسمحت لإسرائيل بتقييد الوصول إلى المعلومات وتطوير وسائل المراقبة وفرض رقابة على المحتوى الفلسطيني على الإنترنت. استخدمت إسرائيل سيطرتها على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات كأداة أخرى لقمع الفلسطينيين والسيطرة عليهم.
انتهكت القيود الإسرائيلية حقوق الفلسطينيين الرقمية في الوصول إلى الإنترنت، والخصوصية وحرية الرأي والتعبير. وبحسب التقرير فإن شركات الاتصالات التي يديرها الاحتلال الإسرائيلي هي المستفيد الأول من هذه القيود الأمنية.
تقدّم مشغلات الاتصالات التابعة للاحتلال خدمات للمستوطنات الإسرائيلية وتحتفظ بالمعدات والبنية التحتية في الأراضي الفلسطينية المملوكة ملكية خاصة في المنطقة ج من الضفة الغربية. وعلى عكس المشغلين الفلسطينيين (جوال مثالاً)، لا تواجه شركات الأمن السيبراني الإسرائيلية أية قيود على الوصول إلى الترددات والبنية التحتية للاتصالات في الأراضي الفلسطينية، ويمكنهم صيانة المعدات والممتلكات في المستوطنات أو المنطقة ج من الضفة الغربية. علاوة على ذلك، تعمل الشركات الأمنية الإسرائيلية دون الحصول على تراخيص من السلطة الفلسطينية، مما يعني أنها لا تدفع ضرائب على نشاطها التجاري في السوق الفلسطينية.
قدر البنك الدولي أن الشركات الإسرائيلية غير المرخصة تكلف السلطة الفلسطينية خسائر بما يقدر بنحو 60 مليون دولار أمريكي، لصالح المشاريع السيبرانية الإسرائيلية.
تحركات المجتمع المحلي، والدولي
انتبهت مراكز الأبحاث و النشاط الاجتماعي الفلسطينية مثل حملة إلى خطر الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع الاتصالات والمعلومات في الأراضي المحتلة وأصدر المركز تقريرًا طالب فيه بمواصلة التوثيق والتحقيق ونشر التقارير حول الانتهاكات الإسرائيلية ضد حقوق الفلسطينيين الرقمية، وتقديم البحوث والتقارير إلى منظمات حقوق الإنسان، بما في ذلك إلى المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بالترويج لحقوق حرية الرأي والتعبير والمقرّر الخاص للحق في الخصوصية. وفي ذات التقرير طالب المركز أن يقوم الاتحاد الدولي للاتصالات السلكية واللاسلكية التابع للأمم المتحدة بما يلي: حث إسرائيل على السماح للفلسطينيين بالوصول الكامل إلى طيف التردد الخاص بهم وفقًا للمعايير الدولية وبناء بوابتهم الدولية المستقلة، وإعطائهم نفاذًا آمنًا دون رقابة و تقييد حقوق النشر و الوصول.
وأصدرت منظمة العفو الدولية بيانًا تحت مسمى "الأبارتهايد الرقمي" أوضحت فيه أن أنظمة المراقبة و تقنيات الذكاء الاصطناعي هي جزء من محاولة متعمدة من جانب سلطات الاحتلال، لخلق بيئة عدائية وكراهية للفلسطينيين، بهدف تقليص وجودهم إلى أدنى حد في المناطق الاستراتيجية، كما الحال في القدس الشرقية و في مدن الخليل و الضفة الغربية، وأماكن انتشار المستوطنات اليهودية".
كشفت المنظمة عن استخدام "الذئب الأحمر" كأحدث أداة مراقبة تجريبية، بعد اثنين آخرين من أنظمة وقواعد بيانات تستخدم ضد الفلسطينيين، على الأقل، بما في ذلك "الذئب الأزرق" و"قطيع الذئاب" (PACK WOLF).
وتسجل وفق المصدر ذاته "قواعد البيانات والأدوات هذه بيانات الفلسطينيين حصًرا وتُستخدم لتحديد إمكانية دخول الفلسطينيين أحياءهم وأماكن أخرى أو خروجهم منها".
ودعت منظمة العفو الدولية سلطات الاحتلال إلى الامتناع عن مراقبة الفلسطينيين، ورفع القيود التعسفية التي تفرضها على حرية تنقلهم عبر الأراضي الفلسطينية المحتلة، باعتبار هذه الخطوات ضرورية نحو تفكيك نظام الفصل العنصري. وبحسب المركز الإعلامي الفلسطيني، فإن المنظمة طالبت في تقريرها بفرض حظر عالمي على تطوير وبيع واستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والتعرف على الوجه لأغراض المراقبة، في إطار حملتها بعنوان “احظروا تكنولوجيا التعرف على الوجه”.
اقرأ/ي أيضًا
تقرير: شركات التكنولوجيا غير مهيئة لمواجهة هلوسة الذكاء الاصطناعي
هل قادت حسابات آلية في تويتر التفاعل على وسم مطار مروي السوداني؟
المصادر