لعقودٍ طويلة تبنت الدول الديمقراطية سياسة إصدار استطلاعات الرأي – التي تنشط بشكل مكثّف- قُبيل العملية الانتخابية، وتعرض نوايا التصويت، والتوجهات العامة للناخبين.
وتُعدّ الانتخابات إحدى أهم أسس الديمقراطية ومؤشرًا على مستوى الحرّية. ويمكن أن تؤثر عوامل سلبية على سير عملها وعلى نتائجها، كالأخبار المُزيفة، والدعاية المُضللة واستطلاعات الرأي المُوجّهة.
وتستغل بعض شركات الاستطلاع المُسيسة والمؤدلجة عملها، بهدف توجيه الرأي العام نحو نتيجة واحدة ومحددة، بالتالي، فهي لا تقوم باستطلاع الآراء، بقدر سعيها للتّلاعب وتوجيه المواطنين والتأثير عليهم، خاصة تلك الشركات التي تنحاز وقت الانتخابات لأحزاب سياسية معينة، وتتغاضى عن البحث السليم والمنهجية العلمية.
في المقابل، تسعى شركات أخرى، إلى استخدام "الفضاء الإلكترونيّ" لإنتاج استطلاعات رأي Pre-Election polls، ما يُفقدها الموضوعية، والحيادية، خاصّة وأنَّ "التكنولوجيا الإحصائية" تواجه عقبات كـ"الذباب الإلكترونيّ" والتحايل، ما يؤدي إلى ظهور نتائج مزيفة واستطلاعات رأي غير علمية.
وعلى الرغم من أنَّ استطلاعات الرأي الـ Pre-Election polls، لا تصيب أحيانًا، لاعتمادها على التّنبؤ، لكن تختلف الأخيرة عن استطلاعات الرأي الزائفة أو الموجهة المُنتجة من قِبل شركات، أفراد متحيزين، ذلك لأنَّ التزييف والتحيزّ في استطلاعات الرأي قد يؤثر على سلوك الناخب وعلى اختياراته.
الانتخابات الترّكية واستطلاعات الرأي المضللة
تُكثفّ مراكز استطلاعات الرأي التركية عملها قُبيل الانتخابات، وتنشر الوسائل الإعلامية والدوائر الرسمية السياسية وغيرها، نتائج هذه الاستطلاعات. واللافت في تركيا، أنَّ جميع الأحزاب السياسية –تقريبًا- تمتلك مراكز إحصاء واستطلاعات تنحاز لتوجهاتها. أمَّا عن النقطة التي تثيرها هذه الشركات فهي التفاوت الكبير والتضارب والاختلاف في النتائج التي تقدّمها.
استطلاعات الرأي التركية لعام 2023
وفي هذا السّياق، قامت مجموعة من الباحثين الأتراك وهم ميرت مورال و إيرم أيداش والبروفيسور سليمان إيرفان، بجمع أحدث استطلاعات الرأي للانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة، من 20 شركة استطلاعية، ظهرت نتائجها في الوسائل الإعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وقد قاموا بمقارنة نتائج الشركات ببعضها.
وبينَ الباحثون، أنَّ هذه الاستطلاعات التي تمّ رصدها قبيل موعد الانتخابات بأيام، ترواحت فيها المعدلات التي حصدها أردوغان بين 41% و49%، والمعدلات التي حصدها خصمه كليجدار أوغلو بين 44% و 51%، أمّا محرّم إينجه فحاز 1.2% إلى 7.7% وسنان أوغان جاءت نسبته من الاستطلاعات 1.1% إلى 5.5%. كما يظهر في الجدول أدناه.
ولاحظ الباحثون أنَّ النتائج جاءت متباينة جدًا. وتنبأوا بتجاوزها لهامش الخطأ وقت الإعلان الرسمي عنها في 14مايو 2023، وهو ما وقع حيث اختلفت الاستطلاعات عن الواقع الانتخابي.
وفي دراسة أخرى بعنوان "تحليل استطلاعات الرأي الانتخابية في تركيا من منظور إجمالي أخطاء الاستطلاع"، تعاونت 47 شركة بحثية، وفحصت 295 استطلاعًا انتخابيًّا، لثماني عمليات انتخابات تركية متعاقبة جرت بين عاميّ 2011 و2019.
وانتبهت الدراسة إلى افتقار بعض شركات الاستطلاع والأجهزة الإعلامية للشفافية، حيثُ وصلت التقديرات "الخاطئة" لتلك الشركات، إلى نسبة أعلى بكثير من هامش الخطأ المحتمل. وبالتالي، لم تزود شركات استطلاعات الرأي جمهورها سوى بنتائج مضللة. وتقول الدراسة إنَّ الاستطلاعات التي تمّ رصدها، لا تتوافق مع المبادئ والمعايير العلمية الصحيحة ولا مع السياسات التي تمّ ضبطها من قِبل خبراء منهجية الاستقصاء، وإنَّ المؤسسات التي تُجري استطلاعات الرأي الانتخابية، والأجهزة الإعلامية التي تشارك نتائجها لا تنقل المعلومات بشفافية كيّ يجري تقييم دقة الاستبيانات وموثوقيتها، لذلك تسقط الصفة العلمية عنها.
ويقدم الباحث إيرم أيداش مثالًا لشبكة سي إن إن، في أطروحته حول استطلاعات الرأي في تركيا، ودور وسائل الإعلام فيها.
ويقول في أطروحته إنَّ الشبكة أنشأت "مؤشرًا للشفافية" لتقديم تنبؤات بناءً على استطلاعات رأي علمية وموثوقة جرى اختيارها من قِبل الخبراء، قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020. وبالتالي لم تنشر استطلاعات رأي مشكوك بمنهجيتها ودقتها ومصداقيتها لتفادي تضليل الرأي العام، وهذا ما يجب القيام به في تركيا.
استطلاعات الرأي التركية لعام 2015
في ورقته البحثية حول استطلاعات الرأي في الانتخابات التركية: التأثيرات الأيديولوجية والتوظيف السياسيّ، يبين الدكتور إسلام حلايقة كيف تباينت نتائج استطلاعات الرأي التي عملت عليها شركات إحصاء تركية قبل بدء العملية الانتخابية بوقت قصير، بتاريخ 1 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015.
ويوضح من خلال ملاحظته، وجود تفاوت كبير بين الشركات فيما يخصّ النتائج، فبعضها عرض نتائج بعيدة كلّ البُعد عمّا أفرزته الصناديق، لتتخطي هامش "الخطأ".
فمثلًا، شركة "كورد تيك" المشار إليها في أسفل الجدول، خفضت النسبة التي سيحصل عليها حزب العدالة والتنمية لأكثر من 10% (39.1%) من النسبة التي حصدها فعلًا في الانتخابات (49.5%). كما منحت حزب الشعوب الديمقراطيّ 14.2% وهي نسبة أعلى من مجموع الأصوات التي حصدها في الانتخابات والتي بلغت 10%.
ومن المعروف أنَّ هذه الشركة مقربة ومنحازة للتيار الكرديّ وحزب الشعوب الديمقراطيّ ذو الأغلبية الكردية، المعارضة لأردوغان، رئيس حزب العدالة والتنمية.
ورغم أنَّ هذه الاستطلاعات جرت قبل أيامٍ من الانتخابات فقط، -أي أنها أخذت بعين الاعتبار مزاجية الناخب- إلّا أنها أظهرت نتائجَ مضلّلة.
وقد خَلُص الباحث، إلى عدة فرضيات منها: أنه ثمة خلل واضح في استطلاعات الرأي، بسبب نتائجها غير العلمية والمنحازة. والفرضية الأخرى: ربما تكون العينة المختارة لا تمثّل غالبية الشرائح المجتمعية التركية، أمّا الفرضية الأخيرة، بحسب زعمه، قد يكون لدى الشركة توجه وانحياز سياسيّ يخدم الجهة التي تدعمها.
أمّا شركة "أرجيتوس" التي نشرت مادتها بتاريخ 19 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2015، قبل موعد الانتخابات التركية بيوم، فقد أشارت في أدواتها المستخدمة في استطلاعات الرأي إلى استعمال: المقابلة بواسطة المكالمة الهاتفية المدعومة بالحاسوب والذي تختصر بـ "CATI"، والمنهج الكمّي لجمع البيانات.
ويقول الدكتور حلايقة بهذا الخصوص إنَّ الشركة لم تقدم تفاصيل واضحة أكثر عن المنهجية والعينات والآلية وأدوات الاتصال المستعملة، وإنَّ اعتمادها على وسائل الاتصال التكنولوجية يقلّل من مصداقية نتائجها، خاصة لصعوبة السيطرة على التكنولوجيا واحتمالية تعرضها للاحتيال والتضليل. وهذه إحدى الفرضيات التي تفسر نتائجها المضللة التي خلصت إليها الشركة.
يقول البروفيسور سليمان إيرفان، إنَّ الوسائل الإعلامية في تركيا نشرت استطلاعات رأي عشوائية في الانتخابات الرئاسية لعام 2023، ومعظم هذه الشركات لا توضّح العناصر الرئيسية في الدراسة، ولا تشرح عن المنهجية المُتّبعة بشكل كافٍ.
واعتمادًا على الرابطة العالمية لأبحاث الرأي العام (WAPOR)، يورد سليمان إيرفان، ما يتعين على الشركة تقديمه عند نشر نتائج استطلاعات الرأي التي أجرتها كـ: اسم الشركة التي أجرت الاستطلاع، حجم العينة، نوع العينة، تاريخ إجراء المسح، الطريقة التي أُخذت بها العينات، كيفية صياغة الأسئلة، وطريقة تطبيق الاستبيان، وكيفية التوزيع.. مضيفًا أنه يتوجب على الشركات تقديم هذه المعلومات ليتسنّى للوسائل الإعلامية والباحثين تقييمها ونشرها بحسب الأصول العلمية.
ويقدّم البروفيسور التركي اقتراحين للوسائل الإعلامية فيما يتعلق بشفافية شركات استطلاعات الرأيّ. الاقتراح الأول: عندَ اختيار استطلاعات رأي ما، على الوسائل الإعلامية العودة إلى أداء الشركات في الانتخابات السابقة، ما إذا كانت نتائجها ضمن الأخطاء المحمولة والهامشية. والاقتراح الثاني: عليها –أي وسائل الإعلام- التحقق ما إذا كانت هذه الشركات تقدّم جميع المعلومات؛ ليتنسى للوسيلة الإعلامية، تقييم نتائجها وفقًا للمنهجية العلمية ونشرها دون الوقوع في فخّ التضليل.
ماذا عن استطلاعات الرأي الأميركية للانتخابات عام 2016؟
بعدَ الفوز غير المُتوقع للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في عام 2016، ظهرت العديد من النظريات حول المشاكل الرئيسية التي واجهت مراكز استطلاعات الرأي. فالأخيرة توقعت فوز المرشحة هيلاري كلينتون بأغلبية ساحقة، إلّا أنَّ ما حصل هو العكس، فازَ دونالد ترامب وقد شكلت هذه النتيجة صدمة، لدى مراكز الاستطلاع الأميركية.
أجرى أربعة باحثين أميركيين من بينهم، إن بيتر.إنز، المدير التنفيذي لمركز "روبر" لأبحاث الرأي العام، وجوناثان بي شولدت، الأستاذ المساعد في جامعة كورنيل، اختبارًا حول خيارات الناخبين، فيما تبينَ لهم أنَّ الكثيرين الذين لم يعربوا عن نيتهم في التصويت إلى المرشحين هيلاري كلينتون، ودونالد ترامب، كانوا خجولين أو مخفيّين.
بمعنى آخر، وعلى حد قول الباحثين، فقد خجلت هذه الفئة من الناخبين، من الاعتراف بنوايا تصويتهم، ويعود السبب برأيهم، إلى نمط التفكير القطيعي، الذي يقود الأفراد وراء الأغلبية لتجنب إحساسهم بأنهم مخطئون أو على غير حقّ. خاصّة وأنَّ استطلاعات الرأي تظهر لهم أنَّ العدد الأكبر يميل إلى انتخاب هيلاري كلينتون". ويُعرف هذا التأثير بـ "تأثير المحاكاة" Band Wagon، أي أنَّ الأفراد يهابون الخروج من الجماعة ويخافون من نبذهم أو معاملتهم كأقلية.
في أكتوبر من عام 2016، أجرى الأساتذة والباحثون الأربعة، اختبارًا للطلاب الجامعيين من جامعة كورنيل، تمثّلَ في استطلاعين تمثيليين على مستوى وطنيّ. الأول أُجريَ عبر الإنترنت، والأخر بواسطة الهاتف بالتعاون مع معهد أبحاث المسح في كورنيل.
أكثر من 20% من الطلّاب لم يبلغوا عن نية تصويتهم لترامب أو كلينتون، ما يعني أنَّ هنالك احتمالية كبيرة لم تنتبه لها مراكز استطلاعات الرأي الأميركية، وهي أنَّ مؤيدو ترامب كانوا خجولين من إبراز مواقفهم للعلن.
وقامَ فريق العمل بتضمين سؤال في الاستبيان الذي أجروه، سمح لهم بتقدير ما إذ كانَ الناخبون لم يحسموا مواقفهم بعد. وكان السؤال "إذا كانَ عليكَ الاختيار، أيّ مرشح رئاسيّ تجده أكثر صدقًا؟ دونالد ترامب أم هيلاري كلينتون؟ وساعدَ هذا السؤال على تخفيف توتر المترددين الذين أجابوا بأغلبيتهم. ما أدى إلى كشف ميولهم الحزبية الأساسية. فتقلّص تقدم كلينتون في كلا الاستطلاعين.
وأظهرت دراسة بعنوان: انحياز الرغبة الاجتماعية في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، أنَّ الأفراد قد يمتنعون عن التعبير علنًا أو في استطلاعات الرأي، ذلك لأنَّ تفضيلاتهم السياسية قد لا تكون مرغوبة اجتماعيًا. واعتمدت الدراسة على "السمة النفسية للمراقبة الذاتية" لإظهار الأفراد الذين يغيرون سلوكياتهم بحسب ما تتوافق مع أعرافهم الاجتماعية.
ووجدت الدراسة أنَّه مع انخفاض "المراقبة الذاتية" أصبحَ الميل للتعبير عن دعم ترامب أكثر وضوحًا وازديادًا. وقد يكون "التحيز في الرغبة الاجتماعية" قد لعبَ دورًا مهمًا في كتم أصوات داعمي مرشح رئاسة الجمهورية دونالد ترامب الذي أصبح رئيسًا.
وتشير الدراسة إلى أنَّ الوسائل الإعلامية لعبت دورًا في قمع الدعم المعبر عنه لدونالد ترامب. فقد كانت تغطيتها أكثر سلبية بشكل عام لترامب من منافسته هيلاري كلينتون. وتضيف الدراسة، أن هذا الميل السلبي لمرشح على حساب آخر، قد يقود إلى تأثير محدد، يفيد المرشح المنبوذ، فينتخبه الكثير من الأفراد سعيًا إلى مناصرته وهو ما أسمته بـ"تأثير المُستضعف" Underdog Effect.
التقليل بشكل منهجيّ من شأن ترامب؟
وقال بعض المحللين إن أحد التفسيرات المحتملة لاستطلاعات الرأي غير المتوقعة لعام 2016، قد تكون بسبب التحيز في عدم الاستجابة، ويعني ذلك، أنَّ الذين لم يشاركوا، رفضوا الإدلاء بأي معلومة، أو لم يتمّ الاتصال بهم. وقد أهملت واستخفت استطلاعات الرأي، خاصة استطلاعات "الولاية" بدعم ترامب، وانحازت إلى المرشحة هيلاري كلينتون. فما هي نظرية "التقليل بشكل منهجيّ من شأن ترامب؟"
في بحثٍ قام به كلّ من مانفريد تي جروتينهيس، وسوبو سوبرامانيان، ورينسي نيووينهويس، وبن بيلزر، وروب إيسينغا، حول فحص دقة ومصداقية استطلاعات الرأي الانتخابية لعام 2016، تمّ أخذ عينة عشوائية من الناخبين المرصودين لكلّ ولاية، منهم داعمون لكلينتون وآخرون لدونالد ترامب.
وقد عثروا على تحيز صغير في استطلاعات الرأي والذي شهد تغييبًا لعينات من الحزب الجمهوريّ في عدد من الولايات الرئيسية لأميركا فكان الاحتمال الأعلى هو فوز هيلاري كلينتون.
وعلى سبيل المثال، منحَ موقع Five Thirty Eigh للإحصاءات واستطلاعات الرأي، نسبة 70%، لاحتمالية فوز "هيلاري كلينتون"، ولكن وفقًا للجمعية الأميركية لأبحاث الرأي العام (AAPOR)، تبين أنَّ هذا الاستطلاع قد أخفق، وظهرَ كأنه مضلّل، ذلك لأسباب عدة، أهمها تغيير تفضيلات الناخبين قبل الانتخابات، والتمثيل المفرط لخريجي الجامعات الداعمين لكلينتون في بعض عينات استطلاعات الرأي. وهذا ما قلل بشكل منهجيّ من شأن فوز المنافس دونالد ترامب، ووقوع مراكز استطلاعات الرأي في التحيز لمنافسته هيلاري كلينتون.
يقول جوني كوها، الأستاذ في قسم الإحصاء في كلية لندن للاقتصاد، أنَّ استطلاعات الرأي هي "الطريقة الأكثر فاعلية للحصول على آراء الناخبين أو مخاوفهم بشأن القضايا الرئيسية أو نية التصويت"وهذا هو جوهر الديمقراطية، لذلك دونَ استطلاعات الرأي لا يمكن منح الأفراد فرصة التحدث عن أنفسهم، والتعبير عن آرائهم السياسية. وتبقى التحديات الأكبر بشأن هذه العملية هي في كيفية القيام بها، وفي كيفية استغلالها والتفاعل معها، لتجنب تضليل الرأي العام والجمهور.
اقرأ/ي أيضًا
أبرز الأخبار الزائفة عن انتخابات الرئاسة التركية 2023
تأثير المعلومات المضللة في الانتخابات التركية
مصادر ومراجع