نشرت رئاسة الجمهورية التونسية، في بلاغ لها بتاريخ 16 أغسطس/آب 2023، جدولًا تضمن نتائج عمليات المُراقبة المشتركة لـ15 مطحنة، قامت بها قوات الأمن والحرس الوطنيين وإطارات وأعوان وزارتي المالية وديوان الحبوب، يوم 15 أغسطس.
وجاء في البلاغ، أنه تم حجز 1597 طنًّا من الطحين المدعّم و99.5 طنًّا من الطحين الرفيع و1579.6 طنًّا من الدقيق و3100 طنًّا من القمح و151.9 طنًّا من السداري و8.45 طنًّا من الملح الغذائي، ليبلغ إجمالي الكميات المحجوزة 202 طنًا.
عقب ذلك، قال الرئيس التونسي، قيس سعيد، خلال لقاء جمعه بوزيرة العدل، ليلى جفال، يوم 18 أغسطس 2023، إن "عمليات المراقبة المشتركة التي قامت بها وزارات الداخلية والمالية والتجارة وتنمية الصادرة والفلاحة والموارد المائية والصيد البحري أثبتت حجم الاحتكار والشبكات التي تقف وراءها وتختلق الأزمات، بغاية التنكيل بالمواطنين وتأجيج الأوضاع الاجتماعية".
التشكيك في رواية احتكار الطحين في تونس
وكثيرًا ما يتهم الرئيس التونسي، في لقاءاته بالمسؤولين في الدولة، أطرافًا لا يحدّدها، بافتعال الأزمات في البلاد منها أزمة التزود بالخبز، التي تعيش على وقعها تونس منذ عدّة أشهر.
في المقابل، يشكك نشطاء وخبراء في الاقتصاد في الرواية الرسمية للسلطة، وانتقد كثيرون منهم الأرقام الأخيرة المنشورة على صفحة رئاسة الجمهورية، معتبرين أن الكميات المحجوزة من طحين وقمح ودقيق تعتبر قليلة جدًا مقارنة بالاستهلاك اليومي الذي يقدر بحوالي 10 آلاف طن.
واتهم نشطاء رئاسة الجمهورية بـ "تضليل المواطنين والتنكيل بهم"، داعين إياه للكشف عن الأسباب الحقيقية لأزمة الخبز، على غرار توقف ديوان الحبوب عن استيراد الكميات المطلوبة من القمح والطحين بسبب الأزمة في المالية العمومية.
واستدل بعضهم على ذلك بوجود بواخر في ميناء صفاقس (جنوبي البلاد)، لأسابيع دون تفريغ لحمولتها.
فماهي الأسباب الرئيسية وراء أزمة الخبز في تونس؟
يتفق الخبراء والمختصون أنّ احتكار مادة الطحين، ظاهرة موجودة، لكنّها ليست السبب الأساسي في تواصل أزمة التزود بالخبز، خلال الفترة الأخيرة.
تراجع توريد الحبوب بسبب الوضعية المالية لديوان الحبوب
قال لؤي الشابي رئيس منظمة "آلارت' (غير حكومية)، أن ما جاء في بلاغ الرئاسة التونسية بخصوص حجز 202 طنًا من الطحين والدقيق والقمح، لا يفسر بأي شكل من الأشكال وجود شبهة الاحتكار.
وأضاف الشابي في حديث مع “مسبار” أن هذا الرقم ضعيف جدًا ويمكن أن تستخدمه مخبزة وحيدة في ساعتين على أقصى تقدير، وأن وجود 200 طن من الدقيق والطحين في 15 مطحنة، لا يمكنه أن يتسبب في أزمة في التزود بالخبز من شمال تونس إلى جنوبها.
ولئن أقرّ رئيس منظمة "آلارت" (تكافح اقتصاد الريع)، بوجود ظاهرة الاحتكار وتحكم الغرف النقابية للمخابز والمطاحن في عملية توزيع الطحين والدقيق، إلا أنّه أرجع السبب الرئيسي لأزمة الخبز في تونس، إلى عدم نجاح ديوان الحبوب في توريد الكميات اللازمة من الحبوب خلال السداسي الأول من سنة 2023.
وأكد الشابي في حديثه مع "مسبار" أن ديوان الحبوب يواجه مشكلات مالية ولم يعد قادرًا على الإيفاء بالتزاماته تجاه المزودين الأجانب والمحليين، وذلك بعد تأخر وزارة المالية في صرف ميزانية الدعم لمدة تتجاوز 14 شهرًا.
وتابع أن هذا التأخير، منع ديوان الحبوب من مداخيل هامة تصل إلى 2.4 مليار دينار، نتج عنه توتر في ميزانية الديوان وتسبب في تراجع توريد الحبوب من 5 في المئة بداية سنة 2023 إلى 50 في المئة ببلوغ شهر مايو/أيار الفائت.
وبحسب لؤي الشابي فإن تونس تستورد في العادة حوالي 1 مليون قنطار من القمح الصلب و1 مليون قنطار من القمح اللين شهريًّا، بينما يقدر الاستهلاك الشهري بحوالي 200 ألف طنّ، إلا أنّ تراجع التوريد تسبب في تسجيل اضطرابات في التوزيع ونقص في المواد الأولية لصنع الخبز.
ويؤكد الشابي في ذات السياق، أن ديوان الحبوب يعاني من ارتفاع ديونه لدى البنوك التونسية التي بلغت حوالي 4.5 مليار دينار.
ويشرف ديوان الحبوب الحكومي في تونس، حصريًّا، على توريد الحبوب بمختلف أصنافها، كما يتولى مهمة توزيع الحصص على المطاحن من أجل صناعة الخبز والمعجنات، إلى جانب مهمة قبول وتجميع محاصيل الحبوب المحلية.
تراجع مخزون المطاحن في تونس
من جهته، اعتبر مدير الغرفة الوطنية للمطاحن وديع الغابري، أن كمية المحجوزات التي نشرتها رئاسة الجمهورية، ضعيفة جدًا، وتُلبي احتياجات مطحنة متوسطة الحجم لحوالي 3 أو 4 ساعات.
وأضاف الغابري، في تصريح أدلى به لإذاعة الديوان المحلية (خاصة)، أن كمية 202 طنًا من الدقيق والطحين والقمح شملت 15 مطحنة، ما يعني أنّها لا تترجم وجود حالات من الاحتكار والمضاربة.
وتابع قائلاً "هو رقم عادي والمطحنة المتوسطة يجب أن يكون لديها مخزون أسبوع كامل من القمح والدقيق والطحين، أي ما يقارب 1500 طنًّا، كي تتمكن من مجابهة الطلب”.
وأكد الغابري في ذات السياق، أنّ مخزون المطاحن بدأ في التراجع منذ شهر يناير/كانون الثاني 2023، وأنّه بحلول شهر إبريل/نيسان الفائت، لم يعد لدى المطاحن أي مخزون، وأصبحت تنتظر وصول القمح من ديوان الحبوب كي تقوم بطحنه ثم بيعه".
وتعول تونس بشكل أساسي على القمح المُورَّد لتوفير الغذاء لمواطنيها، الذين يصل استهلاكهم السنوي من الحبوب إلى ما بين 2.5 مليون إلى 3 ملايين طن من الحبوب، وهو ما يعادل 136 كلغ من الدقيق والحبوب في العام الواحد لكلّ مستهلك.
نقص مخزون الحبوب بسبب الأزمة الاقتصادية في البلاد
بدوره، يقرّ الخبير في الشأن الاقتصادي، معز حديدان بوجود ظاهرة الاحتكار في تونس لكنه ينفي في المقابل أن تكون هذه الظاهرة سببًا في أزمة الخبز التي تعيشها البلاد منذ أشهر.
وأكد حديدان في تصريح لـ"مسبار"، تسجيل نقص كبير في المخزون الاستراتيجي للحبوب بعد أن أصبح ديوان الحبوب غير قادر على توريد الكميات المطلوبة من القمح، بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد وأثرت على المالية العمومية.
وأوضح حديدان أن الرئيس التونسي، قيس سعيد، غير قادر على مصارحة التونسيين بوجود أزمة مالية واقتصادية أدت إلى نقص في التزود بالمواد الأساسية وأنّه دائما ما يُرجع أسباب الأزمة إلى "الفساد والاحتكار".
وشدد حديدان، على فقدان كل المواد الأساسية التي تحتكر الدولة توريدها، مثل القمح والسكر والقهوة والزيت النباتي، داعيًا السلطة الحالية إلى فسح المجال أمام القطاع الخاص لتوريد هذه المواد.
تراجع إنتاج الحبوب بسبب الجفاف
تواجه تونس نقصًا في إمدادات الحبوب بسبب تأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا وعجز ديوان الحبوب على شراء الحبوب بسبب تراكم ديونه، وتراجع الإنتاج المحلي بسبب الجفاف.
وفي يوليو/تموز الفائت، قالت وزارة الفلاحة التونسية، إنه تم تجميع 2.7 مليون قنطار من الحبوب في عام 2023، 99 في المئة منها من القمح الصلب، بنسبة انخفاض بلغت 60 في المئة مقارنة بالموسم الفائت، الذي بلغ الإنتاج فيه حوالي 7.5 مليون قنطار.
وأعلنت الوزارة عن توجهها نحو توفير 700 ألف قنطار من البذور خلال الموسم الفلاحي 2023/2024، وتكوين مخزون احتياطي في حدود 500 ألف قنطار من القمح الصلب المراقب لتأمين حاجيات البذور للموسم الزراعي 2024/ 2025.
وأرجعت الوزارة هذا التراجع إلى الجفاف الذي عاشته البلاد أثناء مراحل نمو الحبوب وهو ما أثّر سلبًا على الإنتاج وعلى جودة الحبوب، وفق ما جاء في تقرير مصور بثه التلفزيون الرسمي في 21 يوليو الفائت.
تقلص واردات الحبوب مقارنة بجملة الواردات الغذائية
كما نقلت وكالة الأنباء التونسية الرسمية عن المرصد الوطني للفلاحة، تسجيل ارتفاع في واردات تونس من الحبوب نهاية شهر يوليو الفائت، بنسبة 4.4 بالمائة مقارنة بالفترة ذاتها من سنة 2022، حيث خصصت الحكومة 1.4 مليار دينار لشراء القمح (الصلب واللين)، من نحو 2.4 مليار دينار صرفت لشراء الحبوب.
وأوضحت الوكالة أنّ الواردات الغذائية في تونس بلغت قرابة 4.5 مليار دينار بنسبة 9.8 في المئة من إجمالي واردات البلاد، علمًا وأن قيمة واردات الحبوب سجلت تراجعًا، بنسبة 14.9 في المئة مع موفى يوليو.
في المقابل، أكد التقرير أن حصة واردات الحبوب تقلصت إلى 54.2 في المئة من جملة الواردات الغذائية المسجلة إلى غاية شهر يوليو 2023، مقابل حصة قاربت 61.5 بالمائة خلال نفس الفترة من سنة 2022.
كما سجل معدل أسعار القمح الصلب المورد انخفاضًا بنسبة 22.9 بالمائة في حين سجل متوسط أسعار توريد القمح اللين تراجعًا بنسبة 18.3 في المئة، ممّا أدّى إلى تراجع قيمة واردات الحبوب من 2.8 مليار دينار إلى 2.4 مليار.
بواخر حبوب تنتظر تفريغ حمولتها في ميناء صفاقس؟
نشرت صفحات وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، منذ 12 أغسطس الجاري، نقلًا عن موقع الشعب نيوز التابع لاتحاد العام التونسي للشغل في تونس (منظمة العمال)، أنّ هناك سبعة بواخر تحمل القمح والشعير تنتظر عملية الشراء لإنزال حملوتها. وأشارت أنّه تم تفريغ أربع بواخر إحداهما روسية كانت تنتظر إتمام خلاص الشحنة، لتفرغ حمولتها منذ 22 يونيو/حزيران الفائت.
ونشر موقع الشعب نيوز يوم 17 أغسطس الجاري، أنّه تم تفريغ خمس بواخر، وأنّ ثلاثة أخرى مازالت تنتظر.
عاد “مسبار” للبحث في مواقع حركة السفن، عن عدد البواخر التي دخلت ميناء صفاقس خلال الأيام الفائتة والتي مازالت تنتظر إفراغ حمولتها حتى تاريخ يوم 17 أغسطس الجاري.
ووجد “مسبار” أنّ هناك أربع بواخر، دخلت الميناء حتى يوم 17 أغسطس، ولحد 19 أغسطس، تاريخ بحثنا، مازالت في الميناء.
باخرة MANTA HACER، دخلت ميناء صفاقس وفق موقع حركة تتبع السفن Vessel Finder يوم 19 يوليو الفائت، وهي قادمة من ميناء تامان الروسي.
الباخرة الثانية هي GEM STAR، وصلت ميناء صفاقس يوم الثامن من أغسطس الجاري، وهي قادمة من ميناء فيسوتسك الروسي.
باخرة PUNKT، دخلت ميناء صفاقس يوم 10 أغسطس الجاري، قادمة من ميناء إسطنبول في تركيا.
باخرة NORDEA STAR، وصلت إلى ميناء صفاقس يوم 17 أغسطس الجاري، قادمة من أوكرانيا قبل أن تتوقف في تركيا.
كما عثر “مسبار” على قائمة البواخر التي غادرت الميناء من يوم 15 حتى يوم 19 أغسطس الجاري.
ووجد قائمة البواخر المتوقع دخولها إلى الميناء بين يومي 20 و25 أغسطس الجاري.
اقرأ/ي أيضًا
هل أزمة التزوّد بالخبز الأخيرة في تونس مُفتعلة كما قال البيان الرئاسي؟
خبراء يشككون في أن تكون نسبة نمو 2.8% مؤشرًا إيجابيًا للاقتصاد التونسي