اعتقلت أجهزة الأمن في سوريا، منذ أيام، الصحفي المقرب من النظام، مضر إبراهيم، المدير السابق لقناة الإخبارية السورية التابعة للدولة، بعد وقت قصير من انتقاده، في منشور على موقع فيسبوك، سياسة الإمارات في توزيع المساعدات الإنسانية في المناطق التابعة للنظام في محاولة منها للتأثير على قرارات دمشق الدبلوماسية، خصوصًا فيما يتعلق بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، على اعتبار أن الإمارات هي الدولة العربية التي بدأت التقارب العربي مع دمشق.
واعتبر إبراهيم أن هناك "مشروعًا خطيرًا مُعدًا لسوريا"، بدأ مع زيارة الشاب المدعو "غيث"، في برنامج "قلبي اطمأن" الذي جاء إلى سوريا وقدّم مساعدات، واضعًا علم الإمارات على حقيبته. مضيفًا أن مساعي الإمارات تلك الرامية لتقريب دمشق من تل أبيب تندرج تحت سياسة أقرّتها الولايات المتحدة.
وراء اعتقال مضر ابراهيم.. قضية جرائم معلوماتية؟
بين إبراهيم أنّ التغلغل الإماراتي في سوريا من بوابة تقديم المساعدات الإنسانية بدأ يكبر بعد الزلزال، وذلك على خلفية ورقة قدمها نواب أميركيون منذ مدة، حول مشاريع التعافي المبكر وضرورة حصرها على المستوى الإنساني، وليس على المستوى التنموي. إذ كتب "شارك الإعلام السوري بعدّ طائرات المساعدات الإنسانية وهلل للجهد الإماراتي بدونية، ليكرس صورة البلد الذي لا تقوم له قائمة إن لم يأت مدد الإمارات"، وفقاً لتعبيره. وذكر أن آلاف الجمعيات والمؤسسات ذات الطابع الخيري والإنساني تم ترخيصها في الفترة الأخيرة من قبل النظام من "دون انتباه لخطرها وآثارها الجانبية في تقديم صورة الدولة الفاشلة، المتخلية عن مسؤولياتها الدستورية".
وبغض النظر عن دقة ما كتبه إبراهيم أو استناده إلى حقائق، فإن اعتقال قوات الأمن له جاء نتيجة قضية جرائم معلوماتية مرفوعة ضده، بحسب مواقع إخبارية محلية، دون تقديم المزيد من التفاصيل حول توقيت الاعتقال أو ظروفه ومع غياب توضيح رسمي من السلطة. لكن بالاطلاع على مواد قانون الجرائم المعلوماتية الذي أقره النظام العام الفائت، “الصارم” بحجم عقوباته وفضفضة مصطلحاته والمكون من 50 مادة، يُرجّح أن مضر إبراهيم اعتُقل بسبب انتهاكه المادة 28 من القانون، المتعلقة بـ "النيل من مكانة الدولة المالية".
وتنص المادة على أنه يُعاقب بالسجن المؤقت من أربع سنوات إلى 15 سنة وغرامة من 5 ملايين ليرة سورية إلى 10 ملايين ليرة سورية، كل من نشر محتوى رقميًا على الشبكة بقصد إحداث التدني أو عدم الاستقرار أو زعزعة الثقة في أوراق النقد الوطنية أو أسعار صرفها المحددة في النشرات الرسمية.
اعتقال أحمد اسماعيل
حادثة اعتقال مضر ابراهيم لم تكن استثناءً في الآونة الأخيرة، إذ اعتقل فرع الأمن العسكري في مدينة جبلة بمحافظة اللاذقية، منذ أيام أيضًا، الناشط أحمد إسماعيل بعد انتقاده الأوضاع المعيشية المتردية وفساد حكومة النظام السوري عبر منشورات وتسجيلات مصورة في صفحته الخاصة على موقع فيسبوك.
وأكدت ابنة الناشط أحمد إسماعيل، رام، نبأ اعتقال والدها من خلال منشور على فيسبوك قالت فيه "بابا اليوم أخدوه مامنعرف مين ولوين.. ع أساس دورية أمنية. ياريت يلي بيعرف شي عنو يخبرنا.. بس بدنا نوصلو أدويته ونطمن عنه. ياريت تساعدونا". وأضافت أن والدها توجه إلى العمل بعد أن ترك هاتفه المحمول في المنزل، وأوصاها في حال اختفائه بأن تنشر نبأ تعرضه للاعتقال عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وأوضحت أنه عقب اختفاء والدها بنحو ساعتين، جاء عنصران تابعان لفرع الأمن العسكري وطلبا الهاتف المحمول الخاص بوالدها، وأبلغا العائلة بأنه معتقل لدى الفرع. وعلى غرار حالة اعتقال مضر ابراهيم، لم تُنشر الكثير من التفاصيل حول أحمد إسماعيل، لكن المقربين منه يرجحون أنه جاء بسبب جريمة معلوماتية أيضًا، والذي قد يعود إلى انتهاكه المادة 28 من القانون المتعلقة بـ "النيل من هيبة الدولة".
وتنص المادة على أنه يُعاقب بالسجن المؤقت من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات وغرامة من 5 ملايين ليرة سورية إلى 10 ملايين ليرة سورية كل من قام بإحدى وسائل تقانة المعلومات بنشر أخبار كاذبة على الشبكة من شأنها النيل من هيبة الدولة أو المساس بالوحدة الوطنية؛ مع الإشارة إلى عدم وجود تعريفات واضحة في بداية القانون للأخبار الكاذبة أو هيبة الدولة أو الوحدة الوطنية، ما يترك القانون عرضةً لإساءة استخدامه.
ولم تقتصر انتهاكات حرية التعبير والنشر في ضوء قانون الجرائم المعلوماتية على تلك الحالات، إذ وبحسب تقرير صدر الأسبوع الفائت عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان بعنوان "القانون رقم 20 لعام 2022 الذي أصدره النظام السوري كرس قمع حرية الرأي والتعبير وتسبب في عشرات حالات الاعتقال التعسفي والتعذيب"، فإنه تم تسجيل قرابة 146 حالة اعتقال تعسفي وحالة قتل بسبب التعذيب على خلفية قانون الجرائم الإلكترونية منذ صدوره حتى الآن.
وجاء في التقرير أن أبرز ما ورد في القانون رقم 20 هو تجريمه وشموله لأفعال تحدُّ وتضيق من حرية الرأي والتعبير لكونها من الجرائم المنصوصة بشكل فضفاض وغير محددة بمعايير أو تعاريف دقيقة أو أركان واضحة للجريمة ماديًا أو معنويًا سواءً عند ورودها في نص القانون أو ورودها سابقًا ضمن قانون العقوبات السوري العام رقم 148 لعام 1949 وتعديلاته الأخيرة الواردة في القانون رقم 15 لعام 2022 “قانون العقوبات العام وتعديلاته”، وإمكانية توجيهها كتُهمٍ لجميع من تقوم الأجهزة الأمنية والشرطية باحتجازه على خلفية نشاطه في الفضاء الإلكتروني.
وذكر تقرير الشبكة أن القانون انتهك حق الوصول للإنترنت وللمعلومات مفتوحة المصدر، إذ سعى إلى تقييد الدخول وحجب وحظر كافة المواقع الإلكترونية المغايرة لتوجه النظام السوري وغير الداعمة له وإحكام سيطرته على ما يسمح للمدنيين من الوصول له وتداوله.
وهي ليست بسياسة جديدة، وإنما عبر القانون الجديد، يسعى النظام لتحديثها وتشريعها بما يتناسب مع التطور التكنولوجي وأيضًا لمعاقبة وتجريم مزيد من المدنيين وإعطاء السلطات صلاحيات واسعة للتفتيش والرصد دون الحاجة إلى إذن قضائي ضمن سياسة واسعة لفرض قيود على نشر المعلومات وحق الوصول إليها أو المشاركة في نقاشات عبر الإنترنت.
اعتقال كنان وقاف
منذ إقرار قانون الجرائم المعلوماتية، استخدمه النظام السوري ذريعة لتكميم أي رواية تُنشر لا تتسق مع الرواية التي يرغب في تقديمها عن الأحداث التي تجري. على سبيل المثال اعتُقل العام الفائت الصحفي كنان وقاف، الذي كان يعمل في جريدة الوحدة المحلية، على خلفية مشاركته منشورًا في حسابه على موقع فيسبوك ينتقد فيه استقبال رئيس النظام السوري بشار الأسد للفنانين، في ظل ما يحدث من أزمات وغلاء أسعار واحتجاجات في السويداء حينها. وهو أمر يخوّل للجهات الأمنية التعامل معه على اعتبار أنه انتهاكٌ للمادة 24 من قانون الجرائم المعلوماتية المتعلقة بـ"الذم الإلكتروني"، إذ تنص المادة على أنه “يُعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة وغرامة من خمسمئة ألف ليرة سورية إلى مليون ليرة سورية، إذا اقترف أحد الذم بحق المكلف بعمل عام أثناء ممارسته لعمله أو بسببه”.
وسبق أن اعتُقل وقاف عدة مرات من قبل أجهزة النظام الأمنية، بسبب انتقاداته للفساد، حتى قبل إصدار قانون الجرائم المعلوماتية بصورته النهائية، ففي الرابع من سبتمبر/أيلول 2020، اعتقل فرع مكافحة الجرائم المعلوماتية الصحفي كنان وقاف، على خلفية تحقيق نشره في صحيفة الوحدة، تحدث فيه عن "شبهات فساد" في شركة الكهرباء بمحافظة طرطوس.
قانون الإعلام في سوريا: تكريس للرقابة
وبالإضافة إلى قانون الجرائم المعلوماتية، كان مجلس الشعب السوري قد وافق نهاية العام الفائت على قانون الإعلام الجديد، الذي ظهرت مسودته عام 2017، والذي اعتُبر مكرّسًا للرقابة على القطاع بسبب تضمّنه العديد من الممنوعات الفضفاضة أيضًا، منها عدم جواز "المس برموز الدولة"، مثل الرئيس والجيش وأجهزة الأمن، أو نشر "المواد التحريضية" دون ورود تعريف واضح للتحريض وكيف يكون.
ورغم احتواء القانون على مادة تنص على عدم جواز اعتقال الصحافي أو استجوابه، ولو كان مرتكبًا لجُرم، من دون إبلاغ المجلس الوطني للإعلام الذي استحدثه النظام عام 2011، أو فرع اتحاد الصحافيين الذي يتبع له الصحافي المعني. غير أنّ هذه المادة، المتعلقة بمنع اعتقال الصحافيين واستبدال عقوبتهم بالغرامة المالية الكبيرة، تعتبر بحكم الملغاة، لأنّها تتعارض مع قانون العقوبات المعمول به في البلاد. ومن الناحية القانونية، في حال وجود أيّ مادة في أيّ قانون تتعارض مع قانون العقوبات، يؤخذ بالقانون الأشد، ما يعني أنّ جميع البنود التي تمنح الصحافي عقوبات مخففة أو تزيد من هامش حرية الرأي والتعبير ستصطدم بقانون العقوبات.
الاحتجاجات في السويداء: القانون في خدمة الرواية الرسمية
تشهد محافظة السويداء جنوبي سوريا منذ أسبوع خروج مظاهرات شعبية في عدة مدن تتسع رقعتها يوميًا، احتجاجًا على تردّي الأوضاع المعيشية، بالإضافة إلى مطالبات بتغيير سياسي جذري في البلاد لا يقتصر على تغيير الحكومة أو إقالتها، بل إسقاط النظام بأكمله.
إلا أن الجهات الإدارية والإعلامية التابعة للدولة لم تعترف بوجود احتجاجات شعبية حقيقية، بل قدّمت رواية رديفة، أطلقت على المتظاهرين في السويداء لقب "الخارجين عن القانون".
ولا تعد هذه المرة الأولى التي يطلق فيها النظام هذا الوصف على المحتجين في السويداء، إذ وصفت وزارة الداخلية المتظاهرين الذين خرجوا فيها، نهاية العام الفائت، بـ”الخارجين عن القانون”، واتهمت بعضهم بحمل الأسلحة وإطلاق النيران. وجاء في بيان الوزارة حينها “مجموعة من الأشخاص الخارجين عن القانون، وبعضهم يحمل أسلحة فردية، أقدموا على قطع الطريق بالإطارات المشتعلة بجانب دوار المشنقة في محافظة السويداء”.
ويخول بذلك وصف "الخارجين عن القانون" على المتظاهرين في السويداء، أو أي منطقة أخرى في سوريا تشهد احتجاجات، لأجهزة الشرطة والأمن التعامل معها بصرامة أكبر، ودون الانتظار حتى الحصول على إذن قضائي.
وتأتي هذه التسمية من قانون "التظاهر السلمي" الذي أقره مجلس الشعب السوري عام 2011، والذي نصّ على أن من يرغب بتنظيم مظاهرة، يشكل لجنة تقدم طلبًا إلى وزارة الداخلية يتضمن تاريخ وتوقيت بدء المظاهرة ومكان تجمعها وانطلاقها وخط سيرها وانتهائها وأهدافها وأسبابها والشعارات التي سترفع خلالها وذلك قبل الموعد المحدد للمظاهرة بخمسة أيام على الأقل، بالإضافة لتقديم تعهّد موثق لدى الكاتب بالعدل يتحمل بموجبه المسؤولية عن كافة الأضرار التي قد يلحقها المتظاهرون بالأموال والممتلكات العامة أو الخاصة.
لكن أثبتت التجربة، أن ذلك القانون إلى حد الآن، لا يتعدى كونه إجراءٌ شكليّ، إذ لم ترد وزارة الداخلية، منذ تمرير القانون حتى اليوم، على أي من الطلبات التي قُدّمت لها لتنظيم مظاهرات. على سبيل المثال، تقدم حزب الشباب للبناء والتغيير الناشئ بطلب في مارس/آذار الفائت، لعقد "اعتصام سلمي حضاري أمام بناء مجلس الوزراء لمطالبة الحكومة بالاستقالة وترك المجال لشخصيات أخرى تمثل كل السوريين وترتقي لحجم أوجاعهم"، لكن الطلب، رغم استيفائه كافة بنود قانون التظاهر السلمي، قوبل بالرفض من قبل الداخلية لأن "الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد بعد الزلزال لا تسمح بالدعوة إلى اعتصامات نظرًا لأثرها السلبي وما قد تسببه من قلاقل بين السوريين".
اقرأ/ي أيضًا:
مسبار يفند الادعاءات المضللة التي وردت في مقابلة بشار الأسد مع سكاي نيوز عربية