تلعب اللغة الإعلامية دورًا بارزًا في طريقة تلقي الجمهور للمعلومات وفهمها، وقد يتسبب استخدام أسلوب معين في صياغة الأخبار في تقديم معلومات مضللة دون أن تبدو كاذبة بوضوح. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي التركيز على جوانب محددة من القصة واستخدام مصطلحات غامضة ومنحازة في صياغة الخبر إلى فقدان جوهر القصة الأصلية أو التشويش على فهم الجمهور لسياق الأحداث.
في بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، اتُّهمت وسائل إعلام غربية بأنها استخدمت لغة تحريرية مضللة وأسلوبًا منحازًا إلى الرواية الإسرائيلية، واعتمدت توجّهًا يتعارض مع المعايير الصحفية المهنية التي تدعي أنها ملتزمة بها.
“هجمات 7 أكتوبر” كنقطة مركزية في صياغة الخبر
اتّخذت وسائل الإعلام الغربية من عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، نقطة مركزية لصياغة الخبر وسرد الأحداث، واعتمدته في مقدمة غالبية المقالات والتقارير الإخبارية، وقللت في الوقت ذاته التركيز على تطورات ما بعد الهجوم والخلفية التاريخية الطويلة للاحتلال. وذلك بما يشابه النمط الإعلامي الذي استخدم أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة. إذ اعتبرت مرحلة ما بعد الهجمات والحرب على الإرهاب حالة خارج التاريخ، عُطلت فيها كل القواعد المهنية للعمل الإعلامي، وجمدت مبادئ حقوق الانسان، بشكل يشبه إعلان حالة طوارئ إعلامية يبرَّر في خضمها كل شيء، فالضحايا أضحوا تفصيلًا ثانويًا في الرواية وهم أعراض جانبية للهجوم لا يمكن تجنبها، أو التفكير ضمن هذه اللحظة بنقل معاناتها.
واستغلت وسائل إعلام غربية طوفان الأقصى، لتضعه في صفحاتها الرئيسية وفي مقدمة كل خبر. على سبيل المثال، بمراجعة تغطية صحيفة ذا نيويورك تايمز ونافذتها الرئيسية التي عنونتها بـ “حرب إسرائيل-حماس”، نجد مقدمة للأخبار تحتوي مصطلحات تبسيطية لا تقدم صورة دقيقة للأحداث، إذ تذكر الصحيفة أن آلاف الفلسطينيين والإسرائيليين قتلوا منذ بدأ الصراع. إنّ هذه الصياغة لا تقدم صورة عادلة للحدث وتساوي أعداد الضحايا الفلسطينيين الهائل مقارنة بأعداد الضحايا الاسرائيليين، وتخلق انطباعًا بأن ما يجري حرب متكافئة بين جهتين، وتتجاهل التطورات التي جاءت بعد تاريخ 7 أكتوبر وعملية الانتقام الجماعي التي تنفذها إسرائيل ضد الفلسطينيين. وهذا ما يؤدي إلى خلق صورة تساهم في تقويض التعاطف مع الفلسطينيين والتطبيع مع معاناتهم.
“هل تدين حماس؟”
أعاد مقدمو البرامج ومذيعو الأخبار في وسائل الإعلام الغربية طرح هذا السؤال على كل ضيف يؤيد القضية الفلسطينية، حتى أصبح أشبه بتذكرة لاستضافة كل من لا يؤيد إسرائيل.
على سبيل المثال في يوم العاشر من أكتوبر 2023، أجرت محطة بي بي سي حوارًا مع حسام زملط، سفير فلسطين لدى المملكة المتحدة. خلال هذا اللقاء، طرحت المذيعة على زملط السؤال حول ما حدث لعائلته في غزة. رد زملط بألم، مشيرًا إلى فقدانه ستة من أفراد عائلته في قصف إسرائيلي. أعربت المحاورة عن تعازيها بشكل مختصر، لكنها أضافت مباشرةً “لا يمكنك التغاضي عن قتل المدنيين في إسرائيل”. ورغم أن زملط كان يجيب على السؤال ولم يبرر الهجوم، إلا أن المحاورة بدت تحاول ربط الأحداث مشيرة إلى هجوم حماس في 7 أكتوبر، بشكل يشبه إلقاء اللوم على الفلسطينيين، وتبرير ما يحدث من عنف ضدهم.
استخدام حماس كمصدر عند تغطية الضربات الاسرائيلية
تعمدت بعض وسائل الإعلام عند تغطية الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة إلى استخدام أسلوب صحافي منحاز، يعتمد على نسب أخبار ما يخلفه القصف الإسرائيلي في قطاع غزة إلى حركة حماس، وذلك بالرغم من توافر مصادر عدة متنوعة يمكن أن ينسب لها الخبر، بما يبدو تقويضًا لصدقية الخبر عن طريق الاستناد إلى مصدر سبق أن تعرض لحملة تشويه واسعة، إذ روّجت إسرائيل ووسائل إعلام غربية في وقت سابق أن حماس فصيل إجرامي يشبه تنظيم داعش. كما حشدت إسرائيل تعاطفًا دوليًا لتعزيز هذه الرواية.
وعلى سبيل المثال استخدمت قناة TalkTV في تغطيتها لمجزرة المستشفى المعمداني عنوانًا جاء فيه حماس: “المئات قتلوا بضربة جوية إسرائيلية على مشفى في غزة”، كما عنونت قناة CNN تقريرها حول المجزرة بالصياغة نفسها، واستعملت كلمة حماس في مقدمة الخبر، وبالتالي نقل المتلقي للخبر من موقع التركيز على الحدث نفسه إلى موقع من نقل هذا الحدث.
التحيّز في تصميم الخبر
تكشف طريقة ترتيب الخبر في تغطية وسائل الإعلام الغربية تحيزًا واضحًا لصالح الرواية الإسرائيلية، وترتيب الخبر أسلوب يعتمد على تسلسل عناصره ضمن أقسام التقرير، وذلك لإبراز ما يعتقده المحرر أنه الأكثر أهمية في الخبر. ومن الممكن أن يكون هذا الأسلوب أداةً يتم من خلالها دفن قصة أو تفاصيل معينة منها عن طريق وضعها في قسم من المقال أو الخبر أقل بروزًا، فتقلّ احتمالية قراءته من قبل المتلقي العادي.
لنلقِ نظرة على موقع فوكس نيوز كمثال، إذ بالنظر إلى نافذة الأخبار الخاصة بـ “الحرب على إسرائيل” يركّز محررو القناة على نقل الرواية الإسرائيلية. مع دفن أو تجاهل الرواية الفلسطينية بشكل يصبح فيه من الصعب للقراء العاديين الوصول إلى معلومات واضحة تنقل معاناة المدنيين في فلسطين، وأثناء تصفحنا توجب مرورنًا على نحو 31 خبرًا مطولًا حول إسرائيل وتصريحات أجهزتها الرسمية، وما يعادل قرابة دقيقتين ونصف من التصفح السريع للعثور على معلومة عن أعداد الضحايا الفلسطينيين أسفل تقرير مطوّل.
عناوين عريضة تخدم الرواية الإسرائيلية
لعل من أهم أشكال التحيّز الإعلامي الذي ظهر في تغطية وسائل الإعلام الغربية للحرب على غزة، هو التركيز على العنوان وصياغته بما يتماشى مع الرواية الإسرائيلية. إن العناوين الإخبارية تلعب دورًا مهمًا في تغطية الأحداث فهي تساهم في تكوين الانطباعات الأولية للأفراد حول القصة. ووفقًا لدراسة فإنّ 59% من الأشخاص يقرؤون العنوان دون أن يقرؤوا كلمة واحدة من النص، وكثير منهم يشاركون الخبر بناء على العنوان أو الصورة المرفقة به.
واستخدمت بعض وسائل الإعلام مثل نيويورك بوست وجريدة ذا تايمز مرات عدة عناوين متحيزة لصالح الرواية الإسرائيلية، وتميّزت عناوين هذه الصحف التي ظهرت بحجم كبير، بالتشديد على مصطلحات متناغمة مع الدعاية الإسرائيلية مثل الإرهاب، الدم، الجهاد. وفي مثال على ذلك وضعت نيويورك بوست صورة لفلسطينيين تعرضوا لجروح جراء القصف الجوي الإسرائيلي وعنونت إلى جانب الصورة “لقد قتل الإرهابيون الإسلاميون شعبهم في انفجار مستشفى ثم ألقوا باللوم على إسرائيل زورًا”.
كما وضعت صحيفة ذا تايمز عناوين عدة مضللة ضمن صفحاتها الأولى، فنشرت عبارات مثل “حماس تقطع رؤوس الأطفال”، واستخدمت صورة لأطفال فلسطينيين ضمن عنوان يتعلق بأطفال إسرائيليين قتلوا. بالإضافة إلى ذلك، ركّزت على عناوين تحتوي مصطلحات مستفزة لجذب التعاطف الدولي الغربي لصالح إسرائيل، مثل الجهاد، مصاحبة لصور فلسطينيين.
وعلى نحو مماثل نشرت صحيفة ديلي إكسبريس البريطانية بتاريخ 19 أكتوبر، عنوانًا احتل نصف صفحتها الأولى ويقول "إثبات أنّ إسرائيل لم تكن مسؤولة عن تفجير مستشفى غزة". يوحي هذا العنوان للمتلقي بوجود دليل قطعي لدى إسرائيل يخلي مسؤوليتها عن قصف المشفى. وتكمن مشكلة هذه العناوين أنها تقدم خلاصة نهائية حول الحدث ولا تشجع القارئ على مواصلة قراءة تفاصيل الخبر أو البحث حوله، بل إن القارئ العادي يكون أكثر قابلية للاكتفاء بالعنوان كنتيجة.
الغموض في التغطية لطمس الرواية الفلسطينية
مع تصاعد الهجمات الإسرائيلية العنيفة على قطاع غزة عملت وسائل الإعلام الغربية، إلى وضع خلفية وسياق تاريخي حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ولكن تعمّدت بعضها استخدام لغة غامضة مثل تصوير ما يجري في فلسطين على أنه صراع معقد وطويل، أو حرب طرفين مع تركيز أقل حول موجات العنف والتهجير التي نفّذتها إسرائيل عبر عقود. إنّ هذا النوع من الصياغة يحجب جزء كبير من الحقيقة، ويبعد المتلقي عن محاولة فهم ما يجري بوضوح، ويوحي بأن عملية فهم ما يجري هي عملية شاقة ومعقدة.
وعلى سبيل المثال وكجزء من تغطية فوكس نيوز للحرب على غزة، قدم الصحفي الأميركي ويل كاين Will Cain مراجعة تاريخية طويلة لما سماه الغوص العميق في تاريخ إسرائيل وفلسطين.
بدأ كاين بافتتاحية نظرية جدًا كانت فحوى كامل الحلقة التي امتدت إلى خمسة وأربعين دقيقة، وكانت حجة كاين الرئيسية بهذه المراجعة بأنّ سلوك الغزو جزء من الطبيعة البشرية القبلية وأن الأرض ليست للفلسطينيين ولا للإسرائيليين، ولكن الأرض لمن يسيطر عليها تاريخياً بالقوة، فالبشر بيولوجيًا محكومون بالصراع، وأن كل شعوب العالم انتزعوا الأراضي من شعوب أخرى في مراحل تاريخية مختلفة.
إنّ بث هذه المراجعة ضمن هذا التوقيت قد تجعل المتلقي يستخلص نتيجة مفادها أنّ هذا الصراع معقد وطويل ويمكن أن يبرر ما يجري من فظائع وعنف، ويقوّض بالتالي الحق الأساسي للفلسطينيين في الوجود ضمن دولتهم.
وعرضت بي بي سي في مراجعة حديثة لها تاريخًا للصراع الإسرائيلي الفلسطيني أرفقتها ضمن تغطية تطورات الأوضاع في غزة، واستخدمت مصطلحات لا تعكس معلومات تاريخية دقيقة، فعلى سبيل المثال ذكرت أن وجود إسرائيل كان نتيجة لتصاعد التوترات بين العرب واليهود قبل عام 1948 على إثر ذلك كلّف المجتمع الدولي بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
هنالك فرق كبير في القول إن المجتمع الدولي كلّف بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين والقول بالتوافق الاستعماري حول إدارة بريطانيا لفلسطين. يحيل استخدام هذا النوع من المصطلحات، وخاصة مسألة تكليف الأمم المتحدة لبريطانيا، إلى أن دولة إسرائيل وجدت نتيجة لظروف وتطورات طبيعية وبتوافق دولي.
ثم من ناحية أخرى تشير المعلومات التاريخية أنّ إصدار وعد بلفور الذي منحت بموجبه بريطانيا وعدًا لليهود بإنشاء وطن قومي لهم، اتخذته بريطانيا بشكل منفرد، ولم يكن هناك تفويض مباشر من المجتمع الدولي لاتخاذ هذا القرار. إعلان بلفور كتبه آرثر بلفور، وزير خارجية بريطانيا آنذاك، إلى لورد روتشيلد، المندوب للمجتمع اليهودي البريطاني في فلسطين. وهذا ما ذكرته بي بي سي نفسها بعرضها معلومات متناقضة حول وعد بلفور في النسخة العربية لموقعها الإلكتروني، إذ ذكرت أن الأسباب كانت دينية وسياسية.
تعديلات تكشف شكوكًا حول التوظيف السياسي للمصطلحات
وجدت وسائل الإعلام الغربية وخاصة التي كان لها تاريخ طويل من ادعاء الحيادية نفسها، أمام إحراج عالمي خاصة مع تطور وسائل التغطية الإعلامية غير الرسمية، فالناشطون ومنصات التحقق لعبوا دورًا رئيسيًا في نقل حقيقة ما يجري بشكل أصبح فيه نقل رواية مضللة حول الأحداث مهمة أصعب، في ظل الكم الكبير من المعلومات التي ينقلها ناشطون حول ممارسات جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ولذلك اضطرت عدة وسائل إعلامية لإعادة تقييم سياستها التحريرية. وعلى سبيل المثال غيرت صحيفة ذا واشنطن بوست تسميتها للحرب منذ العاشر من أكتوبر من حرب حماس- إسرائيل إلى حرب إسرائيل- غزة. وهو ما يكشف أن التسميات السابقة للحرب على غزة كانت لا تعبر بدقة عن حقيقة الوضع، بالرغم من أنه غالبية وسائل الإعلام الغربية ما تزال تعتمدها حتى الآن.
بالرغم من استمرار وسائل الإعلام الغربية بادعاء الحيادية حول تغطيتها للأحداث في غزة، إلا أن من الواضح كيف وظفت هذه الوسائل المصطلحات واللغة الإعلامية لإعطاء الأولوية للرواية الإسرائيلية الرسمية، وتجنب النقد الصريح لسياسيات إسرائيل والجرائم التي ترتكبها في قطاع غزة.
اقرأ/ي أيضًا
العلم الإسرائيلي لم يُرفع في مدينة غزة كما ادعت قوات الاحتلال