في السابع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الفائت، شارك آلاف من اليهود وغيرهم في احتجاجات سلمية في محطة جراند سنترال في نيويورك الأميركية، وذلك في أكبر اعتصام شهدته المدينة منذ أكثر من عقدين. ونُظِّمت الفعالية من قِبل منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام"، وطالب المحتجون بوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. اعتقل في الاحتجاجات قرابة 400 شخص، بما في ذلك بعض الحاخامات.
على إثر ذلك الاحتجاج صنفت رابطة مكافحة التشهير (Anti Defamation League) الحدث كما العشرات غيره، على أنه "معادٍ للسامية“. ووفقًا لتحقيق نشره موقع "ذا إنترسبت“، أضافت رابطة مكافحة التشهير الحدث إلى قاعدة بياناتها التي توثق ارتفاع مظاهر العداء للسامية في جميع أنحاء الولايات المتحدة، واتهمت الرابطة المجموعات اليهودية الاحتجاجية ضد إسرائيل بأنها مجموعات هامشية ومتطرفة، وتبث خطاب كراهية معادٍ للسامية.
ما هي رابطة مكافحة التشهير ADL؟
رابطة مكافحة التشهير (ADL) هي منظمة غير ربحية تأسست في الولايات المتحدة عام 1913، وتكتسب نفوذًا واسعًا وثقة كبيرة هناك، وذلك انطلاقًا من أهدافها التي أعلنتها على مر السنوات في محاربة التشويه والكراهية ضد اليهود، والتمييز العنصري، والتعصب.
وتقول الرابطة إن مهامها تطورت لتشمل مكافحة التمييز ضد جميع الأقليات. ويقوم مبدأ عملها على رصد حوادث التشويه والكراهية، وتقديم التقارير والإحصائيات ذات الصلة. ولكن يشير تتبع سلوك المؤسسة في السنوات الأخيرة إلى مؤشرات على انحياز سياسي وارتباط بالدعاية الإسرائيلية الرسمية، ما قد يكون دليلًا على انحراف المنظمة عن أهدافها المعلنة.
الخلط بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية
في الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الأول الفائت أصدرت رابطة مكافحة التشهير بيانًا قالت فيه إن معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية، وذلك على خلفية اقتحام المئات من المتظاهرين لمبنى الكونغرس الأميركي للمطالبة بوقف إطلاق النار في قطاع غزة. واتهم جوناثان جرينبلات، المدير التنفيذي لرابطة مكافحة التشهير المتظاهرين بانتماءاتهم لجماعات متطرفة تروّج لخطاب الكراهية مثل حركة الصوت اليهودي من أجل السلام.
ردًا على ذلك قالت حركة الصوت اليهودي للسلام، إنّ الخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية الذي تقوم به رابطة مكافحة التشهير يعرّض أي شخص يدافع عن الحقوق الفلسطينية للخطر، ويقمع الحق بانتقاد سياسيات إسرائيل. وإنّ إحدى أهم مهام الصوت اليهودي للسلام مكافحة الاتهامات الكاذبة والخطيرة بمعاداة السامية ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين على وجه الخصوص، التي تروج لها رابطة مكافحة التشهير.
ورغم أن رابطة مكافحة التشهير أكدت في وقت سابق أن الانتقاد المشروع لإسرائيل لا يُعدّ معاداةً للسامية، وأنها أبرزت بوضوح الفارق بين أنواع الانتقاد على موقعها الإلكتروني في مدونة تمت إزالتها وتمكن مسبار من العثور على نسخة مؤرشفة منها. إلا أن سياسات الرابطة الأخيرة وقواعد بياناتها والمؤسسات التي تضيفها إليها، تشير إلى خلطها المتعمد بين انتقاد سياسات إسرائيل وبين معاداة السامية.
التلاعب في البيانات والتقارير
في الرابع والعشرين من أكتوبر تشرين الأول الفائت نشرت رابطة مكافحة التشهير تقريرًا قالت فيه إن حوادث معاداة السامية في الولايات المتحدة زادت بنسبة 400 في المئة منذُ تاريخ السابع من أكتوبر الفائت. وعلى الرغم من أن البيانات لم تكن معروضة للعلن بشكل يمكن تحليله مباشرة، إلا أن فريق موقع "ذا إنترسبت" نجح باستخراج البيانات وتحليلها، واكتشف وجود خيوط واسعة للتضليل ضمنها، مثل تكرارات واسعة لحوادث زُعم أنها معادية للسامية، وبيانات مضللة أخرى مثل وصف مجموعة تقارب 54 في المئة من الحوادث على أنها معاداة للسامية بالرغم من أنها كانت مظاهرات طالبت بوقف إطلاق النار وإنهاء المساعدات العسكرية الأميركية غير المشروطة لإسرائيل.
واتهمت المنظمة مظاهرات عدة أخرى بأنها مظاهرات تحتوي دعم ضمني لحركة حماس والإرهاب، رغم أنها كانت تطالب بوقف إطلاق النار في قطاع غزة فقط.
محاربة حرية التعبير
لاحظ كثيرون أن رابطة مكافحة التشهير تحارب حرية التعبير في إطار انحيازها المنظم للدعاية الرسمية الإسرائيلية، وخاصة بعد أن دخلت الرابطة نزاعًا مع منصة إكس منذ سبتمبر/أيلول الفائت، على خلفية اتهام الرابطة منصة إكس بتجاهل التغريدات التي اعتبرتها معادية للسامية وتحتوي لغة كراهية منذ استحواذ إيلون ماسك على المنصة.
وأشارت تقارير صحفية إلى أن جذور الخلاف تعود إلى أن إدارة إكس لم تحذف جميع المنشورات التي كان يُبلغ عنها من قبل الرابطة على أنها منشورات تحض على الكراهية، كونها لم تكن كذلك.
وفي سبتمبر الفائت قال إيلون ماسك إن إيرادات الإعلانات لدى إكس في الولايات المتحدة تراجعت بنسبة 60 في المئة، ويرجع ذلك بسبب الضغط الذي مارسته رابطة مكافحة التشهير على المعلنين، والتي دفعتهم لسحب إعلاناتهم على المنصة، واتهم ماسك الرابطة بأنها تحاول قتل المنصة.
وفي الحادي والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، صنفت رابطة مكافحة التشهير صفحات عدة على موقع إكس تنتقد إسرائيل، على أنها تحتوي خطابًا معادٍ للسامية ”يتضمن لغة كراهية ودعمًا للإرهاب“ بحسب وصفها.
ومن هذه الصفحات التي ذكرتها المنظمة: صفحة ”فنانون أفارقة ضد الفصل العنصري“، وصفحة ”التحالف الأسود من أجل السلام“، وصفحة ”الجالية الفلسطينية الأميركية“، و“التجمع النسوي الفلسطيني“.
وعلى الرغم من أن غالبية هذه الصفحات تنشر منشورات تتعلق بالسلام والدفاع عن حق الشعب الفلسطيني وانتقاد الانتهاكات الإسرائيلية، إلا أنه جرى تصنيف هذه المنظمات كمنظمات كراهية، انطلاقًا من استخدامها منشورات تحتوي كلمات ”مقاومة“ ومنشورات ”ضد الصهيونية“ ومنشورات تنتقد إسرائيل ومنشورات حول ”استعادة الأرض المحتلة“. وجرى من ناحية أخرى اعتبار الصفحات المناهضة للتطبيع مع إسرائيل، على أنها صفحات تروج لخطاب يحتوي على العنف ومعادٍ للسلام.
وتعمل رابطة مكافحة التشهير بشكلٍ مكثف على التبليغ وحظر استخدام كلمات مثل الفصل العنصري والإبادة الجماعية فيما يتعلق بإسرائيل، على الرغم من أن منظمات حقوق الإنسان الدولية والباحثين وحتى المتحدثين الرسميين استخدموا مرارًا الكلمات نفسها لوصف بعض سياسات إسرائيل.
محاربة الصوت الثقافي المؤيد للقضية الفلسطينية
تكرس رابطة مكافحة التشهير جهودًا واسعة في تعقب الأصوات التي تنتقد إسرائيل في الأوساط الثقافية والأكاديمية، ففي أكتوبر الفائت، رفعت رابطة مكافحة التشهير رسالة لرؤساء الجامعات تطلب منهم التحقيق في مزاعم اتهمت فيها الرابطة حركة ”طلاب من أجل العدالة في فلسطين“، وهي منظمة ناشطة طلابية جامعية مؤيدة للفلسطينيين في الولايات المتحدة وكندا ونيوزلندا، بالدعم المادي للإرهاب، دون تقديم أدلة، وذلك على خلفية النشاط الطلابي ضمن الجامعات الذي طالب بإنهاء الحرب على غزة.
وعلى الرغم من أن تأثير الرابطة في المجال الأكاديمي تصاعد مع بداية الحرب على غزة، إلا أن ضغوط المنظمة لقمع الأصوات الأكاديمية المنتقدة لإسرائيل لم تكن حديثة. ففي عام 2020، وقّعت أكثر من 100 منظمة ثقافية وتقدمية، على رسالة مفتوحة تطلب من المجتمع التقدمي عدم التعاون مع رابطة مكافحة التشهير انطلاقًا من أن الرابطة "لديها تاريخ ونمط متكرر من مهاجمة حركات العدالة الاجتماعية“.
وفي أكتوبر 2006 كان لرابطة مكافحة التشهير دور مُهم في إلغاء محاضرة كان من المقرر انعقادها في القنصلية البولندية في نيويورك للبروفيسور توني جودت، المعروف بانتقاداته لإسرائيل، إذ مارست الرابطة حينها ضغوطًا على القنصل البولندي كرزيستوف كاسبرزيك والذي ألغى المحاضرة على إثرها.
تاريخ مثير للشكوك: شبهات حول مسار المنظمة وتطورها
تاريخ الرابطة يزخر بالمواقف والأحداث التي تثير شكوكًا حول عملها وأهدافها. ففي عام 1993 اتهمت السلطات الأميركية رابطة مكافحة التشهير بتوظيف روي بولوك، الذي قام بالتجسس وجمع معلومات عن أفراد ومنظمات معادية لإسرائيل.
ولفترة تزيد عن ثلاثة عقود، جمع بولوك قاعدة بيانات تضم ملفات حول 12 ألف فرد و950 منظمة. وتبين أن رابطة مكافحة التشهير كانت على دراية بأنشطة بولوك وكان لديها وصول كامل إلى قاعدة بياناته. ونتيجة لذلك، تمت مقاضاة الرابطة جنبًا إلى جنب مع روي بولوك في دعوى جماعية رُفعت من قبل الأفراد والمنظمات المستهدفة. واتُّهم بها بولوك ومسؤولو رابطة مكافحة التشهير بانتهاك القانون من خلال جمع معلومات سرية عن آلاف النشطاء السياسيين والمواطنين العاديين.
كما تعقبت رابطة مكافحة التشهير تاريخيًا منظمات عدة مناهضة لسياسات إسرائيل. ففي عام 2010، نشرت الرابطة قائمة لعشر منظمات قالت إنها مسؤولة عن "الإساءة لإسرائيل في الولايات المتحدة". وتضمنت القائمة منظمة ”الصوت اليهودي من أجل السلام“، ومنظمة ”أنسر“ وهي منظمة لوقف الحرب وإنهاء العنصرية، و“حركة التضامن العالمية“ وهي منظمة تنتقد إسرائيل بالوسائل السلمية.
الانتقائية والتغاضي عن خطاب الكراهية الإسرائيلي
رغم تأكيد رابطة مكافحة التشهير على دورها في محاربة خطاب الكراهية، الموجه ضد كل الأقليات الدينية في الولايات المتحدة، يظهر أن تقاريرها نادرًا ما تتناول انتقادات لخطاب الكراهية الصادر عن الجانب الإسرائيلي.
في الحادي والعشرين من نوفمبر الجاري، نشرت الرابطة مقالًا موجهًا ضد حركة الصوت اليهودي من أجل السلام، وأرفقته بصور كاريكاتورية انتقدت فيها الحركة سابقًا أعمال العنف التي يمارسها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. وصنفت الرابطة هذا النوع من الانتقادات على أنه معادٍ للسامية.
وفي الوقت نفسه، يلاحظ أن الرابطة لم تُعطِ أهمية للعديد من الرسوم الكاريكاتورية الإسرائيلية والمنشورات التي تحتوي على خطاب عنصري وعنف واضح. على سبيل المثال، رغم التغطية الواسعة لوسائل الإعلام لحادثة التصريحات المثيرة للكراهية والعنصرية التي أدلى بها ستيوارت سيلدويتز، المستشار السابق للرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي اعتدى لفظيًّا على بائع مصري في نيويورك ووصفه بـ "الإرهابي"، وقال بأن قتل 4000 طفل فلسطيني ليس كافيًا، لم تنشر رابطة مكافحة التشهير أي تقرير أو تصريح بشأن هذه الحادثة، التي من المفترض أنها تقع ضمن صلب اهتمامها، بحسب أهدافها المعلنة.
إن تحيّز هذه المنظمات الواضح للرواية الإسرائيلية من الممكن أن يشكل خطرًا جسيمًا على الأفراد وعلى حريتهم في التعبير، وقد يكون مصدرًا لتنامي المعلومات المضللة والصور النمطية وخطاب الكراهية الموجه ضد شرائح واسعة من الناس. ويساهم بطمس الحقائق حول ما يتعرض له الفلسطينيون، وبالمحصلة تمكين الرواية الإسرائيلية الرسمية.
ويجدر بالذكر أنه سبق أن راجع مسبار منظمات عدة تقوم بعملٍ مشابه، منها منظمة كاميرا التي تمارس ضغوطًا على وسائل الاعلام والأوساط الأكاديمية لتمرير الرواية الرسمية الإسرائيلية، وقمع الأصوات المؤيدة للفلسطينيين، والمنتقدة لإسرائيل.
اقرأ/ي أيضًا
مركز اتصالات السلام: أداة بروباغندا ذات طابع سلمي تمولها لوبيات إسرائيلية
شركة ويكس للبرمجيات: تعزز الرواية الإسرائيلية وتتحكم بآلاف المواقع العربية