هذا التقرير مترجم عن مقال نشر في مسبار النسخة الإنجليزية في الثاني من إبريل/نيسان الجاري.
كنت في بداية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الفائت، قد أنهيت لتوّي التحقق من ادعاءين تم تداولهما وقتها بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، وتأكدت من أن طلابي قد سلموا ملفات العروض لتقديمها في اليوم التالي، ومن ثم ذهبت إلى السرير لأنام مدة أربع ساعات، لكن بعد ساعتين، استيقظت على صوت القنابل، وكانت هذه بداية "عملية طوفان الأقصى".
في الساعات الأولى للعملية، وبعد إعلان حركة حماس وحركات المقاومة في قطاع غزة عنها، بدأت أخبار ودعاية مضللة تنتشر بشكل واسع في كل مكان، تم إظهار نساء فلسطينيات على أنهن رهائن إسرائيليات بشكل زائف، وكانت ادعاءات الاعتداء الجنسي وقطع رؤوس الأطفال رائجة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتم تداول مقاطع فيديو لألعاب فيديو ونظريات مؤامرة وتقارير لأخبار قديمة بكميات هائلة وبسرعة كبيرة.
كما هو الحال مع كل مدقق حقائق في غزة، أقسمت على الكشف عن حقيقة كل خبر زائف ومضلل نُشر على الوسائط الاجتماعية، سواء كان يخص فلسطين أو إسرائيل، وبالتزامن مع بداية العدوان، قامت إسرائيل بقطع إمدادات الكهرباء عن القطاع، حتى أصبح من الصعب، بل من المستحيل بالنسبة إلي أن أقوم بواجبي.
واجه زملائي نفس الشيء. وعلى الرغم من أن هناك صحفيين لم يتمكنوا من القيام بعملهم إلا بصعوبة، إلا أن صوت الصحفيين لم يكن مرتفعًا كما ينبغي خلال حرب بهذا الحجم. وقد تم إجلاء العديد منهم واستهدفت منازلهم أو قُتلت عائلاتهم. بل إن إسرائيل استهدفت الصحفيين أنفسهم مدعية أن حماس أجبرتهم على ذلك.
انتشار الأخبار المضللة خلال الحرب على غزة
انتشرت الأخبار الكاذبة والمضللة القادمة من إسرائيل بشكل واسع، خاصة في ظل عدم مقدرة الصحفيين على تغطية الحرب بشكل مستمر، حتى انتشرت بين سكان القطاع الذين لم يكن لديهم منفذ لاستخدام الإنترنت.
استغلت إسرائيل الحرب لنشر أخبار كاذبة اعتمد عليها بعض القادة والوكالات دون وجود أي دليل، فعندما تنتشر هذه الادعاءات المضللة بشكل كبير يكون لها تأثير على الحرب، وبالتالي على حياتنا، مما يُمَّكن الأخبار الكاذبة من قتل الناس في الواقع.
مجزرة مستشفى المعمداني
عندما استهدفت إسرائيل مستشفى المعمداني مع بداية العدوان، انتشرت أنباء زعمت أن الصاروخ أطلق من قبل المقاومة الفلسطينية، وليس من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، وألقت العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية والحسابات اللوم على فصائل المقاومة الفلسطينية وحملتها مسؤولية الهجوم. ومن جهته زعم دانيال هاغاري، المتحدث باسم قوات الاحتلال الإسرائيلية، أن حركة الجهاد الإسلامي هي المسؤولة عن الهجوم.
أزعجني التفكير في الأمر، وأدركت أن هذه الفوضى في الأخبار ستضرنا جميعًا وبشده على جميع الأصعدة، في ذلك الوقت، واجهت صعوبة في الوصول إلى شبكة الإنترنت، ولم أتمكن من التحقق من صحة الادعاء، ثم حاولت تشغيل الراديو بحثًا عن قنوات إخبارية تغطي الموضوع، لكن لم تكن هناك إشارات.
حاولت الاتصال بابنة عمتي زينب، التي تعيش بالقرب من المستشفى المعمداني عدة مرات حتى أجابت أخيرًا، قائلة "هؤلاء يحاولون فقط تغطية جريمتهم"، وأضافت أن "الصاروخ كان قويًا جدًا ولا يشبه صواريخ المقاومة".
والحقيقة أنّ الصاروخ الذي استهدف مستشفى المعمداني لا يشبه صواريخ المقاومة، إطلاقًا. وعندما تمكنت من الوصول إلى الإنترنت، سارعت للتأكد من مصدر الصاروخ، وبمراجعة مقاطع الفيديو التي قدمها مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الاستقصائية، تبين أن القنبلة كانت من طراز JDAM الأميركية الصنع التي زُودت بها إسرائيل من الولايات المتحدة الأميركية.
أظهرت تغطية وسائل الإعلام الدولية الكبرى والصحف انحيازًا واضحًا نحو السردية الإسرائيلية، بخصوص عدوان الاحتلال على المستشفى المعمداني، وكانت "ذا نيويورك تايمز" واحدة من الصحف التي سارعت إلى إضافة ملاحظة عقب نفي إسرائيل مسؤوليتها عن القصف، مشيرة إلى أن المحررين في المقالة السابقة "اعتمدوا بشكل كبير على مزاعم حماس"، وكان العنوان الرئيسي في المقال الأصلي "ضربة إسرائيلية تقتل مئات في المستشفى، كما يقول الفلسطينيون"، وبعد ساعات، تغير العنوان إلى "على الأقل 500 قتيل في ضربة على مستشفى غزة، كما يقول الفلسطينيون"، والذي تغير في النهاية إلى "على الأقل 500 قتيل في انفجار في مستشفى غزة، كما يقول الفلسطينيون".
وذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" في تقريرها الأولي عن المجزرة أن "ضربة جوية إسرائيلية على مستشفى غزة تقتل أكثر من 500 شخص، وفقًا لمسؤولين فلسطينيين"، وبعد أربع ساعات، تغير العنوان إلى "ضربة على مستشفى غزة تقتل أكثر من 500 شخص، وفقًا لمسؤولين فلسطينيين"، مضيفة أن الرئيس الأميركي جو بايدن "شعر بحزن عميق جراء الانفجار".
يعتقد العديد من الفلسطينيين أن التسامح الذي أظهرته وسائل الإعلام تجاه قصف مستشفى المعمداني، أتاح الفرصة لمزيد من الانتهاكات الإسرائيلية في مستشفيات غزة، مما فتح الباب أمام إسرائيل لاعتبار المستشفيات ميدانًا للمعركة، لكن بالنسبة للفلسطينيين، فإن الهجمات المتكررة على مستشفى الشفاء هي نتيجة رئيسية للإهمال المتعمد الذي أظهره العالم تجاه مجزرة إسرائيل في المستشفى المعمداني.
حملات تدعي تزييف الفلسطينيين لإصاباتهم
كلما انتشرت مقاطع فيديو وصور لفلسطيني عائلته على منصات التواصل الاجتماعي، يبدأ المستخدمون في الادعاء بأن المشهد مسرحي أو أن الجثث الميتة هي مجرد دمى، إذ انتشرت هذه الشائعات منذ بداية الحرب حتى الآن.
كانت بعض الصحف قد شاركت في نشر هذا النوع من التضليل، حتى زادت حدة هذه الادعاءات.
إذ شاركت صحيفة جيروزاليم بوست، وهي إحدى الصحف الإسرائيلية المؤثرة، صورة لعائلة فلسطينية تنعي طفلها محمد هاني الزهر الذي كان يعاني من التصلب العضلي، وزعمت في مقال لها أن الطفل كان دمية، لكن بعد ردود الفعل السلبية، قامت الصحيفة بإزالة المقال من موقعها الإلكتروني، وذكرت في منشور لها على منصة إكس أن التقرير “اعتمد على مصادر غير صحيحة”.
وانتشرت مقاطع فيديو خلف الكواليس لأفلام وإعلانات تدعي أن ممثلين فلسطينيين يقومون بتزييف وفاتهم، وتمت مشاركة مقاطع فيديو حقيقية لأشخاص يبكون أفراد عائلاتهم، وزعم ناشروها أنها تندرج ضمن ما بات يعرف بـ"باليوود"، وهو وسم يجمع لفظي "فلسطين" و"هوليوود"، وتعتمده حسابات إسرائيلية أو داعمة لإسرائيل للتشكيك في معاناة الفلسطينيين.
خلال الحروب الإسرائيلية السابقة على غزة في سنوات 2014، و2018، و2021، كانت كلمة "باليوود" تتصدر باستمرار ما بين تسعة آلاف وخمسمئة إلى 13 ألف وسم في شهر واحد على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، لكنه جدير بالذكر الآن أنه وصولًا إلى شهر نوفمبر، أي بعد عملية طوفان الأقصى بشهرين، تخطى عدد الوسوم 220 ألفًا.
أنا أعرف إحدى النساء اللاتي فقدن أطفالهن، وادّعى مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي أن طفلها كان مجرد دمية، تم إنكار وجود طفلها الوحيد، الذي عانت كثيرًا لإنجابه، وادعى الناشرون أن دموعها كانت عبارة عن تمثيلية، كل يوم أجلس وأتخيل نفسي كإحدى تلك النساء.
أسطورة "المنطقة الآمنة" في غزة
لكن لا يمكن أن نقارن هذه الحملات بادعاءات ما يسمى "المنطقة الآمنة"، التي أثرت بشكل كبير على حياتنا، وأودت بحياة آلاف المدنيين، وتسببت في إصابات خطيرة دائمة لعشرات الآلاف.
ألقت الطائرات الإسرائيلية منشورات في بداية العدوان الجاري، تحذر فيها الناس في شمال القطاع بضرورة الإخلاء الفوري إلى الجنوب، مُدّعية أن المنطقة ستكون آمنة للمدنيين، محذرة من أنّ "كل من يختار عدم مغادرة شمالي غزة إلى الجنوب سيُعتبر شريكًا في منظمة إرهابية".
كنت من بين الآلاف ممن خاطروا بالسفر عبر أنقاض البنايات المدمرة والجثث متجهين للجنوب، لأصبح في نهاية المطاف شاهدة على المجازر التي ارتكبت في جميع المناطق التي تم تحديدها على أنها "مناطق آمنة".
كنا نكافح في الجنوب من أجل العثور على الخبز والماء والأغطية والدواء، فلم تكن الهجمات الإسرائيلية مختلفة كثيرًا عن تلك التي في الشمال، حتى بلغت نسبة الشهداء في الجنوب 42% من شهداء قطاع غزة بعد شهر من إعلانه كمنطقة آمنة.
وبعد شهرين، أعلنت إسرائيل أن خان يونس، مدينة واقعة في جنوب القطاع، أصبحت "منطقة قتال خطيرة"، وبدلًا منها، تم الإعلان عن المواصي، وهي أرض بعرض 1 كيلومتر وطول 14 كيلومترًا في شمالي خان يونس، كـ "منطقة آمنة". هربت من القنابل الشديدة في خان يونس إلى المواصي لأجدها أرضًا صحراوية، لم يكن هناك ماء أو طعام كافٍ، لم تكن آمنة على الإطلاق، وبعد بضعة أيام، هاجم العدوان الإسرائيلي المنطقة المزدحمة للمواصي دون سابق إنذار، ثم اقتحم العشرات من جنود الاحتلال مع غطاء شديد من الصواريخ مستشفى الخير وجامعة الأقصى، حيث كان آلاف من الناس يحتمون بها، مرتكبة مجازر ضد الفلسطينيين، في تلك الأثناء، لم يكن لدينا أي ممر آمن للهروب، وكانت الدبابات تأتي من كل مكان. بالكاد نجونا، دون أن نأخذ أي شيء معنا سوى أرواحنا.
لم تكن مدينة المواصي الوحيدة التي تم الإعلان عنها منطقة آمنة ثم استهدفت من قبل جيش الاحتلال، فقد استهدفت مدينة رفح، وهي أكثر المناطق اكتظاظًا بالنازحين في الجنوب، حيث تم اقتحامها من قبل جيش الاحتلال عندما أنقذت إسرائيل رهينتين إسرائيليتين، مما أدى إلى مقتل 74 فلسطينيًا.
تستخدم إسرائيل مصطلح "المنطقة الآمنة" فقط للتبرؤ من مسؤوليتها أمام العالم، مقنعة الجمهور بأنها قامت بما يجب تجاه المدنيين الأبرياء بينما تستهدف تلك المنطقة الآمنة بدون توفير ممر آمن للهروب أو حتى إشعار مسبق.
الأخبار المزيفة تؤثر مباشرة على حياتنا
هذه الحرب بدأت بناءً على مزاعم مزيفة وغير مؤكدة مثل اغتصاب نساء إسرائيليات، دون أي دليل، وقتل 40 طفلًا رضيعًا لم يشاهدهم أحد. واستُخدمت هذه المزاعم غير المؤكدة لحشد الرأي العام العالمي، ولتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتصويرهم كوحوش يغتصبون النساء ويقطعون رؤوس الأطفال، ولتصويرهم كدعاة حرب متعطشين للدماء ولا يقبلون السلام.
تم استخدام ادعاء الاعتداء الجنسي لتبرير وتغطية جرائم الاعتداء الجنسي التي تعرضت لها النساء الفلسطينيات على يد الجنود الإسرائيليين، وتم استخدام ادعاء قطع رؤوس 40 طفلًا رضيعًا لتبرير قتل 13 ألف طفل في غزة.
عملية طوفان الأقصى التي وقعت في السابع من أكتوبر الفائت، والتي تعد مقاومة مسلحة لدولة مستعمرة، تم تحريفها وتضخيمها واستخدامها لتبرير نزوح مليون و700 ألف شخص، بما في ذلك أنا، لتبرير تدمير 70% من المباني في قطاع غزة، بما في ذلك منزلي، ولتبرير تدمير وحصار الشوارع، بما في ذلك شارعي.
ولا يقتصر التأثير على الفلسطينيين في غزة، بل يؤثر أيضًا على حياة أولئك الذين يعيشون في الشتات، إذ أودت الادعاءات الزائفة بحياة الطفل الفلسطيني وديع الفيومي الذي يبلغ من العمر ستة أعوام، ويقطن في ولاية إلينوي بالولايات المتحدة الأميركية، حيث تلقى 26 طعنة على يد مالك العقار "بسبب تصاعد حدة الخطاب اليميني عن الحرب في غزة".
الملايين حول العالم يشعرون بالارتباك أو التأثر بالسرديات الدعائية المضللة، إذ يجدون أنفسهم في فراغ لا يستطيعون فيه التمييز بين الحقيقة والباطل، ولأن العديد من وسائل الإعلام نشرت فقط ادعاءات إسرائيل في السابع من أكتوبر ولم تغطي الجرائم التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي، وما زال يرتكبها حتى الآن، بالشكل الكافي.
لا يمكن لوسائل الإعلام الغربية، أن تبرر إبادة الفلسطينيين واحتلالها العسكري ومحو فلسطين التاريخية، على يد نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، قبل أن تصنع صورة دموية لإدانة الفلسطينيين من خلالها، وتصورهم على أنّهم “رهابيون”.
ومن جهة أخرى، هناك نوع آخر من الأخبار المضللة يتداوله الفلسطينيون، ليجلب لهم الأمل، ففي كل ليلة، يصفق ويصفر الفلسطينيون بصوت عالٍ للاحتفال بوقف إطلاق النار، ويقرأ الناس الأخبار عن مفاوضات وقف إطلاق النار والهدنة على الإنترنت، ليعتقدوا بشكل خاطئ أن هناك وقفًا لإطلاق النار.
عندما بدأت هذه الظاهرة، كنت أخبر الناس من حولي أنه لا وجود لمثل هذه الأخبار، في محاولة لتهدئتهم قليلًا وإبعادهم عن الأمل الزائف. لكن بعد وقت قصير، أدركت أنني كنت أقتل أدنى قدر من الأمل بداخلهم. لقد أصبح سكان غزة يائسون بالفعل، وهم محرومون من الإحساس بالسعادة، ومن التفكير في أحلامهم، محرومون من ذكريات ماضيهم. لكني الآن أحتفل معهم. عندما يطلبون مني تأكيد الأخبار، أجيبهم بعبارة "إن شاء الله" المليئة بالأمل، وأواصل الاحتفال، فأقله ونحن غارقون في الأخبار الزائفة السلبية، سنتشبث بهذه اللحظات المبهجة القصيرة من الأمل الزائف.
اقرأ/ي أيضًا
حملة تضليل تروج أنّ الاحتلال الإسرائيلي يضمن حرية العبادة للفلسطينيين
شهادات ودلائل تدين الاحتلال في مجزرة دوار الكويت وتنافي الرواية الإسرائيلية