في عصر الانتشار السريع للمعلومات، تزداد أهمية فهم العوامل النفسية التي تجعل الأفراد أكثر عرضة لتصديق المعلومات الزائفة، والاعتماد عليها في تشكيل التصورات والأفكار واتخاذ القرارات.
في الآتي بعض أهم العوامل النفسية التي تزيد ميل الأفراد لتصديق الشائعات والمعلومات والأخبار المضللة:
الانحيازات المعرفية
تعرّف الانحيازات المعرفية على أنّها أنماط ممنهجة من التفكير، تستوجب الابتعاد عن المعايير العقلانية في إطلاق الأحكام وتفضي إلى تشوه في الإدراك، ممّا يؤدي غالبًا إلى استنتاجات أو معتقدات غير منطقية. يمكن لهذه التحيزات أن تجعل الأفراد أكثر عرضة لتصديق المعلومات الخاطئة. و من أهمها:
- الانحياز التأكيدي Confirmation Bias: واحد من أبرز الانحيازات المعرفية، وينبع من تفضيل الأفراد المعلومات التي تؤكد معتقداتهم المسبقة وميلهم لتجاهل الأدلة التي تناقضها. ويبرز هذا النوع من الانحياز عندما يواجه الأفراد معلومات خاطئة تتماشى مع آرائهم، ويميلون إلى قبولها كحقائق.
- الانحياز الارتكازي (الارتساء) Anchoring Bias: يحدث الارتساء عندما يعتمد الأفراد بشكل كبير على البناء على أول معلومة يتلقونها عند اتخاذ القرارات. وإذا كانت هذه المعلومات الأولية خاطئة، فإنها يمكن أن تشكل مفاهيمهم ومعتقداتهم اللاحقة.
- الاستدلال بالمتاح Availability Heuristic : يقود الاستدلال بالمتاح الأفراد إلى المبالغة في تقدير أهمية المعلومات المتاحة بسهولة لهم. على سبيل المثال، يمكن للقصص الإخبارية المثيرة للجدل (المتاحة)، أن تجعل بعض الأحداث تبدو أكثر شيوعًا مما هي عليه فعليًّا، مما يؤثر على التصورات العامة والمعتقدات.
التأثير العاطفي (الاستجابة العاطفية للأخبار)
يلعب التأثير العاطفي دورًا كبيرًا في كيفية معالجة المعلومات واتخاذ القرارات، وغالبًا ما يستغل مروجو المعلومات الخاطئة الاستجابات العاطفية لدى الجماهير لاكتساب الزخم، ونشر المعلومات المضللة المبنية على الانجرار العاطفي، و يتجلى التأثير العاطفي في ما يلي:
الخوف والقلق
على سبيل المثال، يمكن للخوف والقلق أن يجعلا الأفراد أكثر تقبلًا للمعلومات الخاطئة، خاصة إذا كانت توفر تفسيرًا بسيطًا يُطَمئِن مخاوفهم. على سبيل المثال، خلال الأزمات الصحية، يمكن أن تنتشر المعلومات الخاطئة عن العلاجات أو التدابير الوقائية بسرعة أكبر، و ذلك لأنها تقدم شعورًا مطمئِنًا بالقدرة على التحكم، كما حصل في أزمة كورونا عام 2020.
الغضب والاستياء
يمكن للمعلومات الخاطئة التي تثير الغضب أو الاستياء أن تنتشر بسرعة أكبر من غيرها من المعلومات، وذلك لأنّ هذه العواطف تدفع الأفراد إلى مشاركة المعلومات كنوع من الإشارة الاجتماعية أو social signaling، وهي نوع من أنواع التواصل التي تشمل تعابير الوجه، نبرة الصوت، لغة الجسد، والإيماءات (وفي سياق مواقع التواصل الإجتماعي، فذلك يشمل وجوه الإيموجي التعبيرية، التفاعلات العاطفية، التعليقات، والميمات). تلعب هذه الإشارات دورًا حاسمًا في فهم العواطف والنوايا والمواقف الاجتماعية للآخرين. تظهر هذا الظاهرة غالبًا على منصات التواصل الاجتماعي، إذ غالبًا ما يجذب المحتوى المثير للغضب أو الاستفزازي المزيد من التفاعل.
التأثيرات الاجتماعية
الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، وهو يؤثر ويتأثر بمحيطه الإجتماعي، كما وتؤثر معتقداته وسلوكياته بشكل كبير على الأشخاص من حوله، و بالمقابل يتأثر بمعتقدات وسلوكيات الآخرين. و يتم ذلك عن طريق عوامل عدة، أبرزها:
الأثر الجمعي المعلوماتي (الامتثال للعقل الجمعي)
وهو الميل إلى الامتثال لأفعال وأفكار الآخرين تحت افتراض أنّ تلك الأفعال والأفكار تعكس السلوك الصحيح. على سبيل المثال، عندما يرى الأفراد أقرانهم يشاركون أو يؤيدون معلومات معينة، فإنهم يميلون إلى تصديقها ونشرها.
تأثير السلطة في نشر المعلومات المضلّلة
يميل الأفراد بالمجمل إلى تصديق المعلومات القادمة من شخصيات ذات سلطة (سياسية، عسكرية، تعليمية)، أو من خبراء أو من أكاديميين، حتى وإن كانت تلك المعلومات غير صحيحة. يمكن أن يكون هذا الميل خطيرًا بشكل خاص عندما تكون الشخصية ذات تأثير كبير أو متابعة واسعة.
زيادة المعلومات والعبء المعرفي
قد تؤدي كمية المعلومات الهائلة المتاحة في هذا العصر على منصات التواصل الإجتماعي، إلى شعور الأفراد بالانغمار (الارتباك الشديد “overwhelming”)، مما يؤدي إلى زيادة العبء المعرفي عليهم واستنفاذ مواردهم المعرفية. يمكن لذلك أن يؤدي لإجهاد عقلي من شأنه أن يقلّل قدرة الفرد على تقييم المعلومات بشكل نقدي أو التحقق من صحتها.
زيادة المعلومات
عند مواجهة الكثير من المعلومات، قد يعتمد الأفراد على الاختصارات المعرفية لتفسيرها، ما قد يزيد احتمال تصديق معلومات غير صحيحة. على سبيل المثال، قد يعطي الأفراد الأولوية للمعلومات الواردة من مصادر مألوفة توفر معلومات مختصرة، دون التحقق من دقتها.
العبء المعرفي Cognitive Overload
يحدث العبء المعرفي العالي عندما تتجاوز المتطلبات المعرفية لمهمّة ما قدرة الفرد المعرفية، ما يمكن بدوره أن يعيق الحكم واتخاذ القرارات. في مثل هذه الحالات، يصبح الأفراد أكثر عرضة لقبول المعلومات الخاطئة التي تتطلب مقداراً أقل من الجهد المعرفي لمعالجتها.
الهوية والانتماء الجماعي
يمكن أن تؤثر الهوية الشخصية والانتماء الجماعي بشكل كبير على قبول وانتشار المعلومات الخاطئة، و ذلك عن طريق:
المحاباة ضمن المجموعة: يميل الأفراد إلى تفضيل المعلومات التي تدعم المجموعة التي ينتمون إليها، سواء كانت حزبًا سياسيًا أو مجموعة دينية أو مجتمعًا عرقيًا. يمكن أن يؤدي ذلك إلى قبول المعلومات الخاطئة التي تتماشى مع معتقدات أو قيم المجموعة.
حماية الهوية
قد يرفض الأفراد المعلومات التي تهدد هويتهم أو معتقداتهم الأساسية. تعرف هذه الظاهرة باسم "الإدراك الوقائي للهوية"، وقد تؤدي إلى رفض الأفراد المعلومات الدقيقة، وقبولهم المعلومات الخاطئة التي تبدو لهم أكثر أمانًا لهم أو أشدّ دعمًا لهويتهم.
كيف نقلّل احتمال تصديق الأفراد للمعلومات الخاطئة؟
يعدّ فهم العوامل النفسية التي تجعل الأفراد عرضة لتصديق المعلومات الخاطئة هو الخطوة الأولى نحو معالجة هذه المشكلة. فيما يلي بعض الاستراتيجيات التي تساعد الأفراد على تجنّب الوقوع ضحية للأخبار الخاطئة أو المضللة.
- تعليم التفكير النقدي:
يمكن أن يساعد تعليم مهارات التفكير النقدي الأفراد على تقييم صدقية المعلومات بشكل أفضل، ومقاومة التحيزات المعرفية. (يكون ذلك، على سبيل المثال، بالتساؤل: كيف حدث الخبر؟ ومتى؟ و لماذا؟ و في أيّ سياق؟ و من نشر تلك المعلومات؟). - التربية الإعلامية:
يمكن أن تزود التربية الإعلامية الأفراد بالأدوات اللازمة للتعرف على المعلومات الخاطئة، وفهم الدوافع وراءها. يشمل ذلك تعليم الأفراد كيفية التحقق من المصادر، وفهم سياق الخبر، والتعرف على الأساليب الشائعة المستخدمة في نشر المعلومات الخاطئة. - ضبط وتنظيم العواطف:
بالنظر إلى كون الانجرار العاطفي عاملاً محوريًا في اتخاذ القرارات وتحديد المفاهيم لدى الأفراد، يمكن لتنظيم وضبط العواطف لديهم التقليل من أثرها على رؤيتهم للأمور. ويمكن ضبط العواطف من خلال تقنيات التأمل وتمارين التنفس وتقنيات إدارة الإجهاد وتثقيف الأفراد حول التلاعب العاطفي، الذي يُستخدمه ناشرو المعلومات الخاطئة والمضللة لتحقيق الانتشار. - تشجيع الشك الصحي
يساهم تعزيز مستوى صحي من الشك وتشجيع الأفراد على التساؤل عن المعلومات التي أمامهم، كما يقلّل احتمال قبولهم المعلومات الخاطئة. يشمل ذلك تعزيز ثقافة التحقق من المعلومات قبل مشاركتها (وجود منصات للتحقق من الأخبار يساهم في ذلك). - التفاعل والانخراط المجتمعي:
إنّ تكوين المجتمعات القوية والمطّلعة والتي تشجع على ثقافة الحوار المفتوح والنقاش النقدي، يُعدُّ عاملًا هامًّا يساعد على مكافحة انتشار المعلومات الخاطئة. فعندما يشعر الأفراد بالانخراط المجتمعي الفعّال، يكونون أقل عرضة للاعتماد على المعلومات الخاطئة كمصدر للأمان أو التأكيد.
انطلاقًأ مما سبق، يتّضح أنّ الميل لتصديق المعلومات الخاطئة هو قضية معقدة تتأثر بمجموعة متنوعة من العوامل النفسية، بما في ذلك الانحيازات المعرفية والاستجابات العاطفية والتأثيرات الاجتماعية وزيادة كم المعلومات، بالإضافة إلى حماية الهوية. ومن خلال فهم هذه العوامل، يمكننا تطوير استراتيجيات أكثر فعالية لمكافحة المعلومات الخاطئة وتعزيز مجتمع أكثر اطلاعًا ونقدًا. ويعدّ تعليم الأفراد هذه الآليات النفسية، وتحسين التربية الإعلامية، وتعزيز ثقافة التفكير النقدي والشك، خطوات أساسية للتقليل من الميل تصديق المعلومات الخاطئة والمضللة.
اقرأ/ي أيضًا