تعدّدت أنواع الرقابة على المحتوى الإعلاميّ، وكان المفهوم الدارج للرقابة هو قدرتها على فرض قيود كبيرة على الأخبار والصحافة. لكنها، من جهة أخرى ربّما تكون الرقابة نوعية لجهة “التصحيح والتدقيق”. ورغم ذلك فإنها كثيرًا ما تترك قيودًا من نوع آخر مثل إمكانية وصول المعلومات بشكل مشكوك فيه، خصوصًا إذا كانت تلك المعلومات تخالف آراء القائمين على منصات أو جهات التحقق. أو إذا كانت الرقابة مدارة بشكل كبير من الحكومات أو المؤسسات القريبة منها للحد من الوصول إلى المعلومة الحقيقية.
أشارت دراسة حديثة لعدد من الباحثين في جامعة زيورخ، إلى أن جزءًا من عدم الثقة في معظم الأخبار أصبح ناتجًا عن الأدوات المستخدمة لمكافحة المعلومات المضللة، بما في ذلك تلك القادمة من مصادر موثوقة.
ووجد الباحثون في الدراسة التي أجريت بالتعاون مع زملاء من جامعات كاليفورنيا ووارسو، أن استراتيجيات مكافحة المعلومات المضللة الحالية غير كافية، سواء تلك التقليدية مثل مبادرات محو الأمية الإعلامية، والتقارير الإخبارية المخصصة، أو تلك الاستراتيجيات المُعاد تصميمها مثل الفهم السياسي للتحيزات، والتحليل النقدي دون تشكيك مفرط.
ورغم أن الاستراتيجيات المُعاد تصميمها لم تكن أكثر فعالية بشكل كبير في مساعدة الناس على تمييز الحقيقة من الخيال مقارنة بالاستراتيجيات التقليدية، لكنها كانت أفضل قليلًا منها.
مفعول عكسي للرقابة الرسمية على الأخبار المضلّلة
منذُ جائحة كورونا واقتحام مبنى الكونغرس الأميركي قبل سنوات قليلة، لعبت الجهات الرسمية المسؤولة عن مراقبة صحة المحتوى الإعلامي دورًا كبيرًا في عمليات التحقق من الأخبار المضللة.
وفقًا لدراسة نشرها مركز الأخبار والتكنولوجيا والابتكار (CNTI)، فإن معظم التشريعات التي تستهدف الأخبار الزائفة والمضللة قد تكون ضارة أكثر من كونها نافعة، وهذا ما كان واضحًا في عام 2024 الذي يشهد عددًا قياسيًا من الدورات الانتخابية، التي تنظم حول العالم ويصاحبها عدد هائل من المعلومات المضللة والزائفة.
الدراسة وجدت أن تشريعات مكافحة التضليل غالبًا ما كانت تقوّض الصحافة المستقلة وتعرض حرية الوصول إلى الأخبار المستندة إلى الحقائق للخطر. فالحكومات قد تستخدم هذه القوانين لتصنيف الصحافة المستقلة على أنها جهات ناشرة للأخبار الزائفة، مما يزيد من الرقابة الحكومية السلبية على الإعلام، ويعرقل مكافحة المعلومات المضللة.
في سياق السياسات التي تعتمدها مصادر التحقق المرتبطة بالجهات الرسمية، تؤكد إيما هوس، الباحثة في قسم العلوم السياسية بجامعة زيورخ، أن الجهود الرسمية العامة فيما يتعلق بمكافحة الأخبار الزائفة، تساهم في إضعاف الثقة في المصادر الإخبارية الموثوقة.
في دراسة أخرى منشورة في مجلة “نيتشر”، أظهرت النتائج أن التدخلات لمكافحة المعلومات المضللة تقلل من المعتقدات الخاطئة، لكنها في الوقت ذاته تزيد من الشكوك تجاه المعلومات الصحيحة، مما يؤدي إلى إضعاف الثقة بالمؤسسات الديمقراطية ويجعل من الصعب على الجمهور تمييز الحقائق من الأكاذيب.
تصحيح الأكاذيب أكثر فعالية من نفيها
بوجه عام، فإن الاستجابة الرقابية الرسمية على المعلومات المضللة تنقسم إلى جزأين: تأكيد أو نفي، للمعلومة، وفي كلا الحالتين قد يترك ذلك عواقب أخرى على عمليات التحقق والوصول إلى الحقيقة، وهو ما أشارت إليه دراسة حديثة لمجلة Scientific Reports والتي استخدمت بيئة مواقع التواصل الاجتماعي ضمن أربع دول كعيّنة للبحث حول تأثير استخدام أطر تصحيح المعلومات الخاطئة بأساليب التأكيد والنفي على قبول الجمهور لهذا التصحيح.
بحسب نتائجها، تقترح الدراسة أن أسلوب تصحيح المعلومات المضللة يزيد من التفاعل الإيجابي على وسائل التواصل الاجتماعي مقارنة بنفي هذه المعلومات. فالتفاعل الإيجابي مع تصويب المعلومة من خلال أسلوب نشر الصحيح حولها كان أعلى.
لنفترض أن هناك معلومة خاطئة شائعة تقول: شرب القهوة يؤدي إلى الإصابة بأمراض القلب. عند تصحيح هذه المعلومة، فمن الأفضل بحسب الدراسة استخدام إطار تصحيح مؤكد كالتالي: صحيح، تناول القهوة بكميات معتدلة يقلل احتمال الإصابة بأمراض القلب. هذا النوع من التأكيد يساهم في تحقيق تفاعل إيجابي أكبر من قبل الجمهور.
بالمقابل، إذا استخدمنا إطارًا نافيًا لنفس المعلومة، كأن نقول: غير صحيح أن تناول القهوة يؤدي إلى الإصابة بأمراض القلب قد يكون التأثير الإيجابي أقل فعالية. الناس قد يشعرون بالمزيد من المشاعر السلبية عند قراءة النفي، لأنهم يضطرون لمراجعة تصوراتهم السابقة، مما يزيد من العبء المعرفي عليهم، بحسب الدراسة، ومما هو شائع أن كثيرًا من الأساليب الرسمية في مكافحة المعلومات المضللة ترّكز على أسلوب النفي بدلًا من أسلوب التصحيح.
المناخ الحُّر والمستقل ضروري لمكافحة التضليل
ترتبط عمليات التحقق بالعمل الصحفي الاستقصائي بالمقام الأول، والتي تتطلب بيئة تضمن الحريات والنزاهة المستقلة بعيدًا عن تدخل السلطة. وأشار مراقبون إلى أن القوانين التي شُرعت تحت بند مكافحة الأخبار الكاذبة في عدد من الدول كانت تتحكم بحرية الصحافة وتعد غير واضحة.
خلص الباحث صموئيل جينز من جامعة ستوني بروك، في دراسة أُجريت على 31 دولة بخصوص طبيعة الديمقراطية فيها أن هناك “عدم وضوح” في قوانين مكافحة الأخبار الكاذبة، وقد اكتشف هذه الظاهرة في 12 دولة من أصل 31.
أشار الباحث أن العقوبات على الانتهاكات بحسب تلك القوانين هي شديدة للغاية، حيث تتراوح بين عدة أشهر وقد تصل إلى 20 عامًا. وأن مستوى الحماية المتاح لصانعي الأخبار التي تعتمد على الحقائق أو على الاستقلالية الصحفية كان ضعيفًا، وأن قوانين مكافحة الأخبار الكاذبة تعاني من تعريفات فضفاضة يمكن أن تستخدمها الحكومات لقمع الصحافة المستقلة.
وخلصت دراسة حديثة موازية نشرت في مركز المساعدة الإعلامية الدولي (CIMA) إلى أنه غالبًا ما تكون قوانين إدارة المحتوى الإلكتروني غامضة وتسمح للحكومات بتحديد المحتوى المحظور وفقًا لتقديرها الخاص. ونتيجة لهذا، يخاطر الصحفيون بغرامات باهظة أو حتى بالسجن عن أي محتوى يتعارض مع خط الحكومة.
وبحسب الدراسة فإنه في العديد من البلدان، يتم التعامل مع مكافحة المعلومات الكاذبة باعتبارها قضية تتعلق بالأمن القومي. وفي الدول الاستبدادية، قد يشكل هذا تهديدًا حقيقيًا لوسائل الإعلام المستقلة. ومن أجل معالجة مشكلة المعلومات الكاذبة بشكل مناسب، من الضروري اتباع نهج جديد وأكثر شمولًا.
هل هناك مزايا للرقابة الرسمية على المحتوى المضلل؟
بحسب ما جاء في بعض الدراسات، فإن هنالك اعتقاد سائد أن ضرورة الرقابة في شقها الحكومي، مفيدة قليلًا، وتتلخص تلك الفائدة في ضبط الهياج الشعبي على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة فيما يتعلق بالمواضيع المضللة المرتبطة بالصحة العامة وأخبار الكوارث الطبيعية والتي تتطلب إجراءات فورية وحازمة. فقد يؤدي انتشار هذه المواضيع إلى حالة من الارتباك العام وتصرفات فردية سلبية تؤثر على المجتمع، مما قد يدفع الناس إلى اتخاذ قرارات غير دقيقة بشأن صحتهم، كما حدث خلال جائحة كورونا.
تساهم الرقابة الرسمية، بحسب الكثيرين، بمواجهة خطاب الكراهية في المحتوى الإعلامي، غير أن ذلك لم يكن دقيقًا في جميع الحالات. حيث راجعت منظمة (ADF International) الحقوقية مؤخرًا قانون مكافحة الكراهية الجديد في إيرلندا، حيث ادعت المنظمة في دراستها أن ذلك القانون يشجع على الرقابة بدل مكافحة خطاب الكراهية.
ورغم عدم وجود أساس متماسك لتشريعات مكافحة الكراهية في القانون الدولي، فإن تلك القوانين في جميع دول الاتحاد الأوروبي تبدو غامضة وتعتمد على الذاتية لمن يقوم بتطبيقها بحسب مراجعة ADF مما يعني أنها قد تكون مفتوحة للتفسير الشخصي وتفتقر إلى الوضوح والتحديد، هذا يجعل من الصعب تطبيقها بشكل موحد ومنصف.
وترى ADF أن قانون مكافحة خطاب الكراهية القادم من تصوّر رقابي في إيرلندا يستعد لإرساء سابقة شديدة القسوة من التعصب ضد أولئك الذين يعبّرون عن معتقدات خارج نطاق السياسة الرسمية للدولة، بدلاً من حماية حرية التعبير والسلامة العامة.
وتضيف ADF أن كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي و مجلس أوروبا يتفقون على أن خطاب الكراهية يفتقر إلى تعريف متفق عليه عالميًا. ومع ذلك، تسعى المفوضية الأوروبية إلى جعل خطاب الكراهية جريمة على مستوى الاتحاد الأوروبي، تدرج في نفس القائمة مع الاتجار بالبشر والإرهاب.
هل هناك بدائل للرقابة على المحتوى المضلل؟
إن ترسيخ مفاهيم التفكير النقدي وتثقيف الناس على الأساليب المستدامة في التحقق من الأخبار الكاذبة، وتعليمهم كيفية تقييم موثوقية المعلومات وتحديد التحيز، يمكن أن يساهم بشكل جيد في التقليل من سطوة الرقابة على مكافحة المحتوى المضلل، على سبيل المثال، وجدت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد أن الطلاب الذين تدربوا على تقييم مصادر المعلومات كان من المرجح أن يميّزوا بين الأخبار الحقيقية والكاذبة.
وقدم الباحثون في هذه الدراسة، اقتراحًا بتطوير منهج دراسي يسمى الاستدلال المدني عبر الإنترنت (COR) الذي يعلم الطلاب “القراءة الجانبية” من خلال فحص نتائج البحث والعثور عن أدلة المصداقية. وتعليم الطلاب كيفية تجنب النقر على موقع الويب الأول الذي يظهر واكتشاف التحيزات لدى مشغلي مواقع الويب.
كما تُركّز مبادرات أخرى على تشجيع الصحافة المسؤولة وتعزيز معايير التحرير لمواجهة الرقابة على التضليل وفي هذا السياق نجد أن مؤسسة "بوينتر" أطلقت مبادرة “الحقيقة والصحة” لتوفير موارد للمساعدة في مكافحة الأخبار الكاذبة.
وبمراجعة للدراسات السابقة، يمكن أن نستنتج أن وجهة نظرها تتلخص في أنه كلما كانت المؤسسات والهيئات العاملة على التحقق من المعلومات المضللة، واضحة الهوية والسياسة والتوجه ومكشوفة بعدم تبعيتها للسلطات الحكومية، كلما كانت ثقة الناس بمحتواها المتعلق بمكافحة التضليل، أكثر حضورًا في ظل وجود منصات تحقق رسمية توجهها الدول ضمن أطر قانونية، تضمن لها الحق في التأثير على مصداقية المحتوى الإعلاميّ.
اقرأ/ي أيضًا
طلب الاتحاد الأوروبي من كبرى شركات التكنولوجيا أن تتعهد بالحدّ من الأخبار المضللة
بسبب المخاطر العالية: قانون أوروبي جديد لتنظيم الذكاء الاصطناعي