في يناير/كانون الثاني 2024 نشر الجيش الإسرائيلي بيانًا اتهم فيه حزب الله اللبناني بانتهاك قرارات مجلس الأمن الدولي "بشكل ممنهج". كان ذلك قبل أشهر من بدء إسرائيل الاجتياح البري لجنوب لبنان في 30 سبتمبر/أيلول الفائت، لكن في الوقت نفسه كان القصف الإسرائيلي على لبنان مستمرًا، مستهدفًا مناطق مختلفة من أراضيه.
تكررت الاتهامات الإسرائيلية لحزب الله بانتهاك قرارات مجلس الأمن بشأن الخط الأزرق والمنطقة منزوعة السلاح جنوبي لبنان، سواءً بتصريحات مسؤولين إسرائيليين أو ببيانات رسمية، مثل البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الإسرائيلية في أغسطس 2024، وتداولته كل السفارات الإسرائيلية، والذي اتهم حزب الله بـ"الانتهاك الصارخ لقرارات مجلس الأمن".
على ضوء هذه الاتهامات، واستنادًا إلى البيانات الأممية والأدلة مفتوحة المصدر، يركز هذا التقرير على قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بجنوب لبنان والاتهامات المتبادلة باختراقه بين إسرائيل وحزب الله.
أولًا ما هي قرارات مجلس الأمن الخاصة بلبنان؟
يحكم الوضع الأمني في جنوب لبنان، جملة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، منذ مارس/آذار 1978، عقب احتلال القوات الإسرائيلية آنذاك جنوب لبنان. أصدر حينها مجلس الأمن القرارين رقم 425 و426، وبموجبهما أنشئت قوات يونيفيل الأممية في جنوب لبنان للتأكيد على انسحاب إسرائيل، ومساعدة الحكومة اللبنانية على بسط سلطاتها في المنطقة.
بعد نحو أربع سنوات خرقت إسرائيل القرارين الأممين بتنفيذ اجتياح ثانٍ عام 1982 لجنوب لبنان الذي بقي تحت الاحتلال الإسرائيلي حتى عام 2000. وخلال تلك المدة، ارتكبت إسرائيل انتهاكًا مباشرًا ليس لقراري مجلس الأمن الصادرين بشأن جنوب لبنان فحسب، وإنما أيضًا لقوات اليونيفيل الأممية، ذلك عام 1996، عندما استهدفت مقر إحدى كتائب اليونيفيل في قرية قانا، ما أدى لمقتل 120 مدنيًا لجؤوا لمقر الكتيبة بسبب القصف الإسرائيلي، وإصابة 4 جنود من اليونيفيل.
حاولت إسرائيل تبرير القصف بأنّ حزب الله أطلق قذائف هاون من موقع مقر الكتيبة. لكن تحقيقًا للأمم المتحدة أثبت زيف الادعاءات الإسرائيلية، مؤكدًا أنّ الموقع الذي أطلقت منه قذائف الهاون يبعد ما لا يقل عن 220 مترًا عن مقر كتيبة يونيفيل.
بعد الانسحاب الإسرائيلي في عام 2000 حددت الأمم المتحدة خط الانسحاب الذي سيعرف لاحقًا بـ"الخط الأزرق". لا يُمثّل الخط الأزرق الحدود الرسمية للبنان خاصة أنّه لا يضم مزارع شبعا المتنازع عليها. لكنه بمثابة حاجز قانوني يعد تجاوزه المسلّح من أيّ من الأطراف، خرقًا للقرارات الأممية.
أعقب ذلك القرار قرارين صدرا في 2004 و2006، الأول القرار رقم 1559، الذي يؤكد على ما جاء في القرارات السابقة، ويزيد عليها بالدعوة إلى نزع السلاح من المليشيات المسلحة في لبنان وحصر السلاح في يد الحكومة اللبنانية. ولطالما أعلن حزب الله رفض هذا القرار، خاصة المادة التي تنص على نزع السلاح من الجماعات المسلحة في لبنان.
وأثار القرار 1559 جدلًا واسعًا لبنانيًا وعربيًا. وفي جلسة مناقشة القرار في مجلس الأمن، وصفه محمد عيسى، الأمين العام لوزارة الخارجية اللبنانية حينها وممثل لبنان في مجلس الأمن، بأنه تدخّل في شؤون لبنان الداخلية. ويُذكر أن 9 أعضاء من أصل 15 عضوًا في مجلس الأمن صوّتوا لصالح القرار، فيما امتنع الستة الباقون عن التصويت.
وفي أغسطس 2006 أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 1701، الذي انتهت بموجبه الحرب الإسرائيلية على لبنان. وشهد التصويت على القرار إجماع أعضاء مجلس الأمن الدولي، ونصّ القرار للمرة الأولى على إنشاء منطقة منزوعة السلاح في جنوب لبنان، باستثناء سلاح اليونيفيل وقوات الجيش اللبناني. تمتد هذه المنطقة، وفقًا لنصّ القرار، من الخط الأزرق إلى نهر الليطاني.
في 30 سبتمبر الفائت صرّح رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي، بأنّ حكومته مستعدة لتطبيق القرار 1701 كاملًا، ثم في 11 أكتوبر الجاري عاد للتأكيد على أن حكومته بجميع مكوناتها بما فيها حزب الله، مستعدة لتطبيق القرار الدولي 1701. لكن في أيّ من المرّات التي أكد فيها ميقاتي استعداد حكومته لتطبيق القرار 1701، لم يتطرق إلى أن القرار يتضمن تأكيدًا على ما جاء في القرار 1559 بشأن نزع السلاح من كل الجماعات المسلحة في لبنان.
خروقات ثابتة.. احتلال قرية الغجر مقابل سلاح حزب الله
منذ صدور القرار 1701 عملت الأمم المتحدة على مراقبة تنفيذه وتقديم تقارير دورية بشأن الخروقات والانتهاكات للقرار. اطلع "مسبار" على تقارير مراقبة تنفيذ القرار، ليجد أنّها تضمّنت بنودًا ثابتة في معظمها، مثل استمرار احتلال الجانب الإسرائيلي لقرية الغجر الشمالية الواقعة شمال الخط الأزرق، إضافة إلى تطورات هذا الاحتلال للقرية، مثل إحاطتها بسور يفصلها عن الأراضي اللبنانية.
في يوليو 2023 تحدثت تقارير إعلامية عن بناء إسرائيل سور حول قرية الغجر الشمالية. لكن في الواقع، تُظهر صور الأقمار الصناعية أنّ عمليات بناء السور بدأت منذ مطلع 2014 على الأقل. وفي ديسمبر 2022 كان بناء السور قد اكتمل تقريبًا.
ومن البنود الثابتة أيضًا في تقارير مراقبة تنفيذ القرار 1701، بندٌ عن عدم إحراز أي تقدم بشأن نزع الأسلحة من الجماعات المسلحة في لبنان واعتراف حزب الله علنًا بامتلاكه القدرات العسكرية، وبند عن استمرار الادعاءات بشأن نقل الأسلحة إلى جماعات مسلحة داخل لبنان غير تابعة للحكومة.
إسرائيل تخرق الخط الأزرق 90 مرة أكثر من حزب الله
في الوقت الذي تتهم فيه إسرائيل حزب الله بانتهاك قرارات مجلس الأمن، فإنها تتجاهل انتهاكاتها الثابتة والمستمرة لقرارات مجلس الأمن، كما تتجاهل واقع أنّه خلال فترة صدور بيان الجيش الإسرائيلي ضد حزب الله، كانت إسرائيل قد انتهكت قرار مجلس الأمن رقم 1701 بوقف الأعمال العدائية وعدم خرق الخط الأزرق، قرابة 90 مرة أكثر من حزب الله.
فخلال الفترة ما بين 21 أكتوبر 2023 و20 فبراير 2024، رصدت اليونيفيل 978 مرة قصفًا من شمال الخط الأزرق أي من لبنان، إلى جنوبه أي إلى إسرائيل، في حين رصدت 7948 مرة قصفًا من إسرائيل إلى لبنان، ما يعني أن نسبة الخروقات من قبل حزب الله تمثل 12% من نسبة خروقات إسرائيل خلال المدة نفسها، هذا في حال افترضنا أن كل قصف استهدف إسرائيل مرورًا بلبنان كان وراءه حزب الله، إذ إن فصائل عديدة تبنّت العديد من عمليات الاستهداف ضد إسرائيل بمقذوفات وطائرات مسيرة.
وفي تقرير ثانٍ قالت اليونيفيل إنّها رصدت 1540 مرة قصفًا من لبنان إلى إسرائيل، مقابل 3032 مرة قصفًا من إسرائيل إلى لبنان، وذلك خلال الفترة ما بين 21 فبراير 2024 إلى 20 يونيو 2024، علمًا بأنّ هذا الرصد لا يشمل صواريخ الجو-أرض (أي القصف الجوي) ولا قذائف مدافع الدبابات، وإنما ينحصر في الصواريخ وقذائف الهاون والمدفعية.
يعني ذلك أنّه خلال الفترة المذكورة، خرقت إسرائيل الخط الأزرق ضعف عدد المرات التي خرق فيها حزب الله الخط الأزرق، ذلك بدون احتساب المرات التي شنّت فيها إسرائيل غارات جوّية على لبنان خلال الفترة نفسها.
وخلال نفس الفترة (21 فبراير إلى 20 يونيو 2024) بلغت الغارات الجوية الإسرائيلية أضعاف مرات القصف الإسرائيلي الذي رصدته اليونيفيل. وتُظهر خريطة "استوديو أشغال عامّة للاعتداءات الإسرائيلية على لبنان"، غارات جويّة طاولت معظم المناطق اللبنانية، بما في ذلك المناطق الواقعة أقصى شمال البلاد.
وتجاوز عدد الغارات الجوية على بعض المناطق 70 غارة، مثل بلدة عيتا الشعب الواقعة جنوبًا على الخط الأزرق والتي تعرضت لـ74 غارة جوّية على الأقل خلال نفس الفترة المذكورة. فيما تعرضت بلدات مثل كفر كيلا والخيام لأكثر من 40 غارة جوّية. كما تعرضت الناقورة التي تضم المقر الرئيسي لقوات اليونيفيل، لـ29 غارة جوّية على الأقل.
لم تقف إسرائيل عند حدود انتهاك قرارات مجلس الأمن، إذ أبلغت اليونيفيل تعرض قواتها إلى اعتداءات متكررة من قبل القوات الإسرائيلية منذ بدء الاجتياح البري للبنان في 30 سبتمبر الفائت، حتى أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طالب بسحب قوات اليونيفيل وإخراجها من لبنان. بتعبير آخر طالب نتنياهو بتعطيل قرارات مجلس الأمن خاصة القرار 1701.
مطالبة نتنياهو بسحب قوات اليونيفيل الأممية المخصصة لحفظ السلام في جنوب لبنان والتأكد من تنفيذ قرارات مجلس الأمن، جاءت بعد إصابات وقعت في صفوف جنود القوة الأممية، وسلسلة من الاعتداءات المباشرة على منشآت اليونيفيل.
في 30 سبتمبر بدأت إسرائيل الاجتياح البري لجنوب لبنان، واقتحمت القوات الإسرائيلية نقاطًا مختلفة على طول الخط الأزرق. وتُظهر صور الأقمار الصناعية أنّ عددًا من نقاط الاجتياح الإسرائيلي تضمنت قواعد ومنشآت لليونيفيل، فضلًا عن منشآت اليونيفيل التي تعرضت للقصف والتخريب العسكري.
وأظهرت صورة جوّية من شركة Planet Labs بتاريخ 24 أكتوبر سواتر ترابية أنشأتها قوات إسرائيل كمناطق تمركز لها حول قاعدة اليونيفيل قرب بلدة مارون الرأس.
تأكد مسبار من ذلك بالعودة إلى صورة بتاريخ 5 أكتوبر، تظهر فيها الآليات العسكرية الإسرائيلية خلف السواتر الترابية التي أنشأتها حول قاعدة اليونيفيل على بعد لا يتجاوز أقصاه 116 مترًا.
ومن المحتمل أنّ القوات الإسرائيلية تعمّدت الاحتماء بقاعدة اليونيفيل هذه (6-52)، لأنّ القاعدة لا تقع في مسار القوات الإسرائيلية نحو مارون الرأس استنادًا إلى نقطة الاجتياح، إذ تبعد عن قرية مارون الرأس 500 متر على الأقل جنوبًا، وعن مسار التوغل الإسرائيلي 350 مترًا على الأقل شرقًا.
يقع المقر الرئيسي لليونيفيل في الناقورة على بعد 2 كيلومترًا من الخط الأزرق. ومع ذلك استهدفته القوات الإسرائيلية 3 مرات في 3 أيّام متتالية، من بينها قصف مدفعي استهدف المقر يوم 10 أكتوبر وأصاب بشكل مباشر برج مراقبة رئيسي بالمقر، ما أدى إلى إصابة جنديين من اليونيفيل كانا داخل البرج.
وذكرت اليونيفيل حرفيًّا في العديد من البلاغات، إن القوات الإسرائيلية استهدفت عمدًا قواعد ومقرات تابعة لها، سواء بالقصف أو الاقتحام أو إطلاق النيران أو إتلاف كاميرات مراقبة وأجهزة اتصال، مؤكدةً أنّ "أي هجوم متعمد على قوات حفظ السلام يشكل انتهاكًا خطيرًا للقانون الإنساني الدولي وقرار مجلس الأمن 1701".
اقرأ/ي أيضًا
حرب معلوماتية وأساليب اختراق وتضليل رافقت العدوان الإسرائيلي الجاري على لبنان
خلافًا للادعاءات الإسرائيلية.. لا أدلة على وجود مخابئ لحزب الله تحت مستشفى الساحل