` `

حول التضليل الكلامي وعلاقته بالأخبار الزائفة

نور حطيط نور حطيط
سياسة
12 يناير 2021
حول التضليل الكلامي وعلاقته بالأخبار الزائفة

احتشد منذ أيام، عشرات الآلاف من المتظاهرين المؤيدين للرئيس الأميركي دونالد ترامب في محيط البيت الأبيض. وفي مسيرة "Save America" التي دعوا إليها، طالب مناصروه بضرورة مراجعة انتخابات الرئاسة التي فاز فيها المرشح الديمقراطيّ جو بايدن، بعد إصرار ترامب على رفض الاعتراف بالهزيمة، وعبثه على مواقع التواصل الاجتماعي، فتارة يتهم الديمقراطيين بسرقة الفوز، وتارة أخرى يلجأ للأخبار المضللة عبر موقع تويتر في تغريدات قصيرة حول تزوير الانتخابات ونتائجها، مستخدمًا التضليل الكلامي كأحد أسلحته لاستهداف الجماهير.

وفيما كان الكونغرس يستعد للمصادقة على فوز جو بايدن بمنصب رئيس الولايات المتحدة، اقتحم مناصرو ترامب -ضحايا الظاهرة الترامبية المضللة- الكابيتول، ما أدى لتوقف العمل هناك.

هذا الخبر أحدثَ ضجة عالمية، وأعاد إحياء مصطلح الأخبار الزائفة (Fake News) ومخاطره، خصوصًا وأنّ التمظهر الواضح للأخبار الزائفة كان مع صعود الظاهرة الترامبية. فماذا عن التضليل الكلامي الذي لا يبرح ترامب إلّا ويستخدمه في خطاباته القصيرة على منصة تويتر؟ بحكم أنّه الرئيس الأكثر تفاعلًا أو كما يذهب البعض لتسميته بـ "رئيس التغريدات".


التضليل الكلامي المعاصر وطرقه

في كتابه "التضليل الكلامي وآليات السيطرة على الرأي العام"، يستعرض المختص في علم الفلسفة والمنطق د.كلود يونان، مضامين فهم أصول الكلام التضليلي ويتخذّ من السفسطائية أنموذجًا يوظفها في مؤلفه. يعتبر يونان "اللوغوس الكلامي" لوغوس قوَوِي، يمارس قوته السحرية والعنفية والمتسلطة والإغوائية في الوقت ذاته، بهدف الإقناع عبر التضليل.

إنّ فلسفة اللوغوس الكلامي كان لها التأثير الكبير على الدوكسا (DOXA)* عند الحركة السفسطائية التي لا تزال مفاعيلها مستمرة حتى اليوم، إذ يُضلِّل الرأي العام، وعبر اللغة التي بدورها تمارس السلطة والإخضاع، فتكون المحصلة النهائية بحسب يونان: قيادة الدوكسا وبالتالي قيادة الأخلاق والسلوكيات والتصرفات والعقول. وهذا ما برزَ جليًا في الأحداث الأخيرة التي أعقبت انتخاب جو بايدن. مع دونالد ترامب، تصبح اللغة متسلطة كبيرة كما أشار السفسطائي اليوناني غورغياس.

في أواخر عام 2016، عقب دورة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ظهرت نظرية بيتزا غريت والتي كُشف زيفها لاحقاً، بعدما أكدت إدارة شرطة العاصمة بمقاطعة كولومبيا عدم مصداقيتها. بدأت "بيتزاغريت" مع اختراق حساب البريد الإلكتروني الشخصي لـجون بودستا، مدير حملة هيلاري كلينتون آنذاك، ونشرت ويكيليكس بدورها الرسائل الخاصة به في نوفمبر 2016. وقد ادّعى المعارضون لحملة كلينتون أن هذه الرسائل تحوي على كودات مشفرة تكشف تورط كبار المسؤولين في الحزب الديمقراطي مع مطاعم أميركية بدائرة الاتجار بالأطفال والبشر.

نشرت القصة مواقع مثل إينفوورز (Infowars) وبلانت فري ويل (Planet Free Will) وفيجيلنت سيتزن (The Vigilant Citizen). وروّجها بعض ناشطي اليمين البديل مثل مايك سيرنوفيتش وبريتاني بيتيبون وجاك بوسوبيك. وفي خضمّ التشويق والتضليل الكلامي الذي برز وقتها في العديد من الصحف الورقية والإلكترونية، قدم رجل من ولاية كارولاينا الشمالية إلى مطعم البيتزا كوميت بينغ بونغ وأطلق النار داخله.


تجوب الكذبة نصف العالم، بينما ما تزال الحقيقة ترتدي حذائها

أظهرَ علماء النفس أنّه عندما يرتبط الناس بشكلٍ حصريّ بمن يتفقون معهم، يقعون ضحايا التحيز التأكيدي ويفقدون القدرة على تمييز الأخبار الزائفة من الصحيحة. وليس الأمر أنَّ الصحفيين الذين ينقلون الأخبار كاذبون تمامًا، إنما بشكل أدقّ منحازون. انطلاقًا من فكرة الوقوع في فخ الانحيازات المعرفية، يبين يونان العديد من الطرق المعاصرة للتضليل الكلامي عبر آليات عديدة كـ "التضليل بالإيحاء الكلامي". ويستعين بغوستاف لوبون في كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير"، حيث يؤكد مدى تأثير الإيحاء الكلامي وفعاليته في أذهان الجماهير بهدف التضليل، ويعتبر أنّ الإيحاء يحمل داخله نوعًا من المخاتلة، وتحت تأثير الصور والأفكار الذي يخلقها يصبح "الشخص بلا مقاومة"، أي يدخل في حالة من الثقة العمياء إزاء الايحاءات. وقد استخدم -تاريخياً- إعلام أدولف هتلر الإيحاء عبر الكلام "القووي المضلل"، إذ أدخل هتلر القلق والخوف في قلوب أعدائه باستخدامه للتمظهر القوَوِي (العنف والشدّة والتحريض) وعبر توصيفات من قبيل الإغواء والتزييف في امتلاكه للقوة الكونية، إلى أن حوّل شعبه لأدوات ووسائل تخدم مخططاته السياسية والعسكرية.


طرق أخرى لتزييف الكلام

في رحلة صعود ترامب إلى سدة الحكم، أعطى باستخدامه للإيحاء الكلام الإغوائي وعودًا زائفة لشعبه. متملّقًا بالعواطف والمشاعر والكلام اليوتوبي، كالوعود الرنانة ببناء جدار طويل وضخم يمتد على الحدود الجنوبية المتاخمة للمكسيك، مع العلم بأنّ هذا القرار يتطلب موافقة الكونغرس، في الوقت الذي لا يملك ترامب أية سلطة لإجبار المكسيك على تمويل بناء الجدار.

يعرج  يونان على موضوع التضليل بالتسميم الكلاميّ (Intoxication)، فمن جهة يتحدّث في كتابه عن فاعلية الكلمة التي استخدمها السفسطائيون كسلاح فتّاك. انطلقت هذه الوسيلة من قواعد، وقد ماثل هؤلاء الكلام بالسمّ. ومن جهة أخرى يقول حول هذا التضليل الذي مارسته الحركة السفسطائية في "البولِس اليوناني" إنه لا يزال مستمرًا إلى يومنا هذا، وقد ظهر جليًا في الحروب الدعائية بين الدول وبين الخصوم السياسية. ومن الذين استخدموا التسميم الكلامي سابقًا بحسب يونان، كبير المغول جنكيز خان حين كان يشيع عن مقاتليه أنهم أعداد كالجراد التي لا تحصى، وأنهم يأكلون كل شيء يجدونه في طريقهم.

حديثًا، انتقدَ جان بورديار الظواهر الزائفة، عندما ولّت الحقيقة وصعد معها الواقع الذي أصبح مقنّعًا أو شكلًا مصطعنًا. فحرب الخليج كما رأى بورديار جاءت مرآة لنظريته حول الواقع المزيف. إذ إن التسويق الإعلامي سمم جماهيره "تسميمًا تخديريًا" بغية تضليلهم. وهذا ما تحقق في القرن العشرين، فلم يقتصر التضليل الدعائي الهتلري على تسميم الأعداء، بل أيضًا على جمهوره. والجدير بالذكر أنّ هتلر استخدم آلية للتلاعب بالكلام وتضليله، فمزج بين الكلام بالصوت والموسيقى، لتصبح الجموع قوّة واحدة مخدّرة، تحركها يدٌ واحدة.

 

التضليل بواسطة الاختلاق الكلامي 

في ظل استمرار الوباء العالميّ وتفشّيه، واصلت بعض منصات التواصل الاجتماعي بثّ سموم الأخبار الزائفة والمضللة والادعاءات التي لا صحّة لها، وكان أكثرها غرابة مقطع الفيديو الذي ربط انتشار فيروس كورونا بشبكات الجيل الخامس للهواتف النقالة، الأمر الذي أدى في بوليفيا إلى هجوم مدنيين على أبراج الهواتف المحمولة في مدينتين. كما أفادت بي بي سي بوقوع العشرات من حوادث تدمير الهوائيات في بريطانيا.

يؤكد يونان في كتابه على جزئية الكلام المضلل واجتراره لواقعٍ هلامي غير موجود. لأنّ الواقع حسب رأيه: ما هو موجود وهو بعكس ما هو غير موجود. ويولد هذا التزييف وقائع وهمية تؤثر -عكسيًّا- في نفوس وعقول المتلقين.

إنّ صنع قناعة جديدة لدى الرأي العام تهدف إلى تضليلهم، وتسعى للتأثير عليهم خصوصًا أنها قد تغدو أكثر تصديقًا من الحقيقة نفسها حتى لو تمّ نفيها نفيًا رسميًا، وقد أورد لنا يونان مثالًا عما حدث بعد ضربة "بيرل هاربور" وما رافقتها من موجات انهزامية في الرأي العام، إذ استمرت هذه الأخبار الزائفة في التداول بنسبة 44٪ حتى بعد تدخل الرئيس الأميركي روزفلت شخصيًا لنفيها.

 

الهوامش

*الدوكسا في اللغة اليونانية له معنى الرأي والظن، هذا يؤدي إلى القول أن الرأي يحمل في جوهره إمكانية الريب والخطأ والتخمين والشك، وهذا ما يؤكده ما ورد في موسوعة لالاند الفلسفية، تحت عنوان "DOXA" جاء أنه حالة ذهنية قوامها التفكير بأن قولًا قد يكون صحيحًا لكن مع التسليم بإمكان الانخداع.

المصادر

كتاب التضليل الكلامي وآليات السيطرة على الرأي العام 

Reuters

BBC newspapers

RT Arabic

الأكثر قراءة