` `

المجتمع واللقاح.. بين الماضي والحاضر

نور حطيط نور حطيط
علوم
21 مارس 2021
المجتمع واللقاح.. بين الماضي والحاضر

"وأمّا لهذا العهد وهو آخر المائة فقد انقلبت أحوال المغرب الذين نحنُ شاهدوه وتبدّلت بالجملة".

وصف ابن خلدون الفيسلوف التونسي في مقدمته الشهيرة مرض الطاعون بأنّه "ذلك الوباء الجارف، الذي تحيَّف الأمم وذهب بأهل الجيل، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشرِ". وقد اكتسب هذا المرض الفتاك بعدًا فلسفيًا، واعتبره ابن خلدون الحد الفاصل بين العالم القديم عالم -ما قبل الطاعون- والعالم المُحدث. 

وهذا ما حاول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو استعراضه في مدخل كتابه "الجنون في العصر الكلاسيكي"، حين رصد التحوّل الحاصل في جوهر الخطر الذي أغدق بأوروبا من المرض المعروف بالجذام، وصولًا إلى الجنون في العقول باعتباره من أهمّ التحولات المرتبطة بمولد الحداثة.

ويعود أصل مصطلح الوباء للجذر اليونانيّ epidemic من epi أي "على أو فوق" وdemos أيّ "الشعب". ويشير أستاذ الفلسفة التونسيّ، الدكتور فتحي المسكيني إلى أنَّ الفحص التأويلي لهذا المصطلح يوحي "بمركزية أنثروبولوجية تختفي وراءه حيثُ يشعر الإنسان بأنّه مركز العالم والحياة".

عصر الخلاص: إدوارد جينر

عقب اجتياح مرض الجدري للمجتمعات، عمّ الرعب أوساط أوروبا إذ حصد أرواح الكثيرين، وعُدّ المسبب الأول للوفاة في القرون الوسطى، فانهارت على إثره ثقافات وحضارات، وأصيب الناجون منه بتشوهات كبيرة.

في ظل هذه المأساة التاريخية التي شهدها العالم، نجح الطّبيب والجرّاح الإنكليزيّ إدوارد جينر في اكتشاف اللقاح سنة 1796. استخدم جينير جرعة من مرض جدري البقر، الاختبار الذي حرّك الرأي العام في مقاطعة غلوستيرشر جنوب غربي إنجلترا، عندما قام بحقنها في جسد جيمس فيبس، ابن البستاني الذي كان يعمل لديه.

نجح جيبر في الاختبار، وسُميت عملية التلقيح آنذاك في اللغة الإنجليزية بـ vaccination وهي عبارة مشتقة من كلمة vacca والتي تعني “أبقار” في اللغة اللاتينية. 

لكن ماذا عن الصِدامات التي وقعت بعد نجاح التلقيح، وماذا عن تسارع وتيرة الخوف الذي ولّد  احتجاجات كبيرة وواسعة مناهضة للقاح. كيف أثرّ انتشار الشائعات على العامّة؟ وما التحدي الذي نحن بصدده اليوم أمام حجم الأسئلة التي خلّفها كوفيد 19 المستجد.

خوف العامة والانتماء الجمعي 

أخطر ما يمكن أن يتصدر مشهد تاريخي ما، وقوع الجماعة في فخّ التغيّب الكليّ عن العقل، ما يلبث أنْ يصبح إشكالًا أخلاقيًّا وسياسيًّا وربما تكنولوجيًّا أيضًا، في ضوء التطوّر الرقمي الهائل الذي نعيشه حاليًّا.

فماذا لو طغى الخوف على الكتلة المجتمعية؟ ما الذي يمكن أن تُحدثه هذه المشاعر؟ 

في السنة الفائتة، اندلعت احتجاجات في الولايات المتحدة الأميركية لأسباب عديدة، وكان من مطالب المحتجين إيقاف عملية التطعيم بلقاح فايروس كورونا المستجد، إذ حمل العديد منهم لافتات تقول"اللقاحات تجلب المرض، وتسببُ الوفاة."

بالرجوع إلى الوراء، نجد أن دوافع الجموع وراء التشكيك في اللقاحات ليست وليدة اللحظة، ففي أواخر القرن التاسع عشر، خرج عشرات الآلاف من المحتجّين إلى الشوارع في إنجلترا؛ مندِّدين بقرار البرلمان بفرض التطعيم الإلزامي ضد مرض الجدري، وقد عمدَ المتظاهرون إلى رفع لافتات  تقول "السجن أفضل من طفل مسموم". وما زاد من فرصة تصديق الشائعات ودعم مقاطعة اللقاح، تخوّف الطبقة العمالية آنذاك من الدولة التي لا تبرح أنْ تتحكم بالأجساد وتستخدم -بالتعاون مع الطبقة البرجوازية -أساليب هيمنة مختلفة، خصوصًا وأن الدولة إبان القرن التاسع عشر برزت ككيان مُنتج.

اليوم، وسط مخاوف كبيرة أعقبت اكتشاف لقاح كورونا، انتشرت الأخبار الزائفة من كلّ حدبٍ وصوب، ومن المعروف أن المعلومة -النبأ- لم تعد حكرًا على الصحافي، إنما امتدت حدودها لتشمل المتلقي أيضًا، الذي صار بدوره مشاركًا في صناعة الأخبار.

ومن أبرز الشائعات التي لاحقت لقاح كورونا، أنَّ "لقاح فايز- بيونتيك، يؤثر على الإنجاب عند النساء، ويسبب العقم لديهن"، ما اضطر  شركة فايزر وخبراء عدة إلى دحض هذه الإشاعة وتبيان زيفها.

البيوبوليتيك.. والسيطرة الاجتماعية على الجسد:

  قد يكون أحد أهم الأسباب التي تدفع بأفراد المجتمع للانسياق داخل لعبة الخوف الجماعية حول اللقاحات، هو فقدان الثقة بالسلطة السّياسية. ففي كتابه ولادة الطب السريري يعرّي الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو السلطة، ويفضح دورها في "دولنة الصحة" التي أشاعها كمفهوم فلسفي ضمن حيز منهجه البنيوي، بعد قطيعة معرفية مع أقرانه السابقين أمثال هوبز ولوك وجان جاك روسّو. ويقول في معرض حديثه فيما يخص جوهر السلطة وتعريفها، أنَّ السياسة التنظيمية التي تعتمدها السلطات -وشكلها الرأسمالي- بشكل عام، تتناسب مع حاجاتها الإنتاجية، من جهة، إضافة لتحكمها في ديموغرافيا الشعوب وفرض دور رقابي وصارم على أجسادهم، من جهة أخرى. 

وانطلاقًا من رؤية فوكو، يظهر ازدياد خوف العامّة، من السلطة التي لا تقل ضراوة عن الوباء في السيطرة على ممارساتهم، ما يوفر بيئة جاهزة لنسج الأقاويل والشائعات وانتشار نظريات المؤامرة والأكاذيب النابعة جميعها، من هذا الخوف المجتمعي.

جزء من المخاوف التي ترددت، في الآونة الأخيرة، بحسب ما نقلت وسائل إعلام: أنّ اللقاحات المُصمّمة لتدمير كوفيد 19 تحتوي على جسيمات نانوية دقيقة، تعتمد تقنية الذكاء الاصطناعي لتسجيل بيانات الإنسان الحيوية. لكن هذه الادعاءات قام بنفيها خبراء ومختصون، وقالوا إنه لا وجود لتكنولوجيا تتيح إدخال برمجيات مشابهة إلى جسم الإنسان من خلال اللقاح. وفي هذا السياق تداولت منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تفيد بأن اللقاحات المطورة من قبل بيوتنك- فايزر تعتمد على "الحمض النووي الريبي" "RNA"، والذي يمكن أن يحدث تغييرًا جذريًا في الحمض النووي للإنسان "DNA". لكن متخصصون في علوم الوراثة والمناعة عادوا لنفي تلك الادعاءات كونها لا تستند على أدلّة علمية، وإن كانت ترسل تعليمات جينية، إلا أنها لا تؤدي إلى تغيير في الحمض النووي للإنسان.

الأخبار الزائفة وتأثيرها 

-على الأقليات:

مع المواكبة العالمية لحملة اللقاحات، برزت مشكلات عدّة، فقد أظهرت طبيبة من منطقة ويست ميدلاندز وبحسب ما نقلت بي بي سي، أنَّ عددًا من مرضاها من جالية جنوب آسيا حالما جاء دورهم، كانوا قد رفضوا أخذ اللقاح.

تعاني الأقليات -في بعض الدول- من مشكلات مشتركة مثل أن لغاتها غير مستخدمة في كثير من الأحيان في الإدارة الوطنية أو المحلية. وبالتالي، فإن الأقليات قد تواجه حواجز أمام المشاركة الكاملة في الحياة العامة، الأمر الذي يتطلب إلى زيادة مساعي الدول -تلك التي تعيش فيها الأقليات- لإزالة اللغط الحاصل حول أضرار اللقاح وإيجاد السبل الأفضل للتواصل مع جميع الأقليات وإقناعهم بأهمية حملات التطعيم ودحض كل المعلومات المضللة، المتداولة فيما بينهم والتي من شأنها منعهم من أخذ اللقاح.

-على مستخدمي التقنيات الحديثة:

أعلنت الشركة الدولية للمعلومات في لبنان، أن 31٪ من اللبنانيين فقط، وافقوا على تلقّي لقاح فايروس كورونا المستجدّ. وذلك بعد الاستطلاع الذي أجرته حول استعدادهم لحملة التطعيم. ويعود سبب تخوف اللبنانيين إلى انتشار الأخبار الكاذبة على منصات التواصل الاجتماعي، والدور السلبيّ الذي مارسته بعض وسائل الإعلام بنشر المقالات المضللة.

علينا أن نعي من المثال أعلاه إذًا، بأن ثورة المعلومات الحاصلة تستوجب نوعًا من المسؤولية والدقة في نقل المعلومة لئلا تشكل خطرًا وتعقيدًا في حل مسألة الوباء الذي يهدد حياة الملايين.

مكافحة الأخبار الزئفة:

الجميع يحلمُ بمجتمع حداثويّ، كون الإنسان -بطبيعته- في حالة سعي دائمة نحو المثالية، وتوّاق إلى فكرة التفاوض والعيش السلمي. ولكن الانبهار والاهتمام الفائق لإنسان العالم الرقمي بالتقدم التقني والمعلوماتيّ خلقَ نوعًا من التعقيد رغم توفير التقنية له، الراحة والبساطة والسرعة في حل المشاكل.

وقد رافق تطور التواصل وانفتاحه على فضاءات افتراضية، انتشار واسع للمعلومات الخاطئة، ما استدعى سلسلة من السياسات لمكافحتها. وقد عمدت دول عديدة إلى إطلاق استراتيجيات لدحض الأخبار المضللة، المتعلقة بفايروس كورونا المستجدّ ولقاحه، هذا بالإضافة إلى جهود عمالقة المنصّات الإلكترونية، كمنصّة تويتر وفيسبوك، في ملاحقة الشائعات والمعلومات المتعلقة بالوباء العالمي والتّي أثبت الخبراء عدم صحتّها.

يمكن لنا أخيرًا، وعبر تفعيل الشكّ، واستخدام العقل النقدي، تخفيف الخطر النّاتج عن الأخبار المضللة ولو نسبيًّا، لحماية الفضاء العمومي من التشوهات.

 

المصادر

BBC

مؤمنون بلا حدود

الحرة

BBC

الجمعية العامة للأمم المتحدة

اقرأ أيضاً

الأكثر قراءة