يوم الأحد الفائت، بينما كان العالم ينتظر سماع أخبار من يفغيني بريغوجين، زعيم مجموعة فاغنر التي كانت قد بدأت قبل يوم واحد زحفها نحو موسكو وتراجعت عنه في اليوم نفسه، أشارت الخدمة الصحفية التابعة له إلى أن العالم سيضطر إلى الانتظار أكثر. وقالت الخدمة إنّ بريغوجين "يقول مرحبًا للجميع، وسيجيب عن الأسئلة عندما يحظى بإشارة جيدة [على هاتفه المحمول]".
ويوم الاثنين، كسر بريغوجين صمته أخيرًا في رسالة صوتية مدتها 11 دقيقة نُشرت على تطبيق تيليغرام، قائلًا إنه تلقى آلاف الأسئلة الصحفية وأراد تصحيح الأمور. وأصر على أن المسيرة إلى موسكو لم تكن محاولة انقلاب ضد الرئيس فلاديمير بوتين، ولكنها كانت مجرد احتجاج على سوء معاملة فاغنر من قبل مسؤولي دفاع بوتين. كما قارن بريغوجين نجاح تقدم مجموعته نحو موسكو بفشل القوات الروسية في التقدم نحو كييف العام الماضي، متفاخرًا بأن قوات فاغنر قد وضعت "دروسًا متقدمة".
بريغوجين الذي لا يحب الظهور الإعلامي
في الأيام الأخيرة، برز بريغوجين كأحد الشخصيات التي جذبت اهتمام وسائل الإعلام، من سجينٍ مدانٍ بالاحتيال، إلى بائع هوت دوج، إلى مستثمر يُطعم الجيش الروسي ويقدم الكافيار لجورج بوش، ثم أسّس مجموعة عسكرية خاصة، واستخدمها أخيرًا لزعزعة سلطة بوتين.
في سياق تمرده الأخير، لاحظت أليس سبري من صحيفة ذا إنترسيبت أنّ بريغوجين نسج روايته للجمهور، مستفيدًا من خبرته التي تزيد عن عقد من الزمن في مجال حرب المعلومات. ومع ذلك، طوال معظم ذلك العقد، عاش بريغوجين في الظلال وهاجم الصحفيين الذين حاولوا تسليط الضوء عليه.
تعود مزاعم تورط بريغوجين في حرب المعلومات نيابة عن بوتين إلى أوائل عام 2010 على الأقل، عندما دعم، وفقًا لصحيفة نوفايا غازيتا الروسية المستقلة، فيلمًا وثائقيًا يصور المتظاهرين المناهضين لبوتين على أنهم "دمى مدفوعة الأجر".
كما ربطت الصحيفة بريغوجين بتمويل وكالة أبحاث الإنترنت، وهي شركة خدمات رقمية تضخ أخبارًا مزيفة تتبنى الرواية الروسية حيال مختلف القضايا على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بعد أن ذهب مراسل من الصحيفة متخفيًا للبحث عن وظيفة في الوكالة، واكتشف أن أحد مديريها كان موظفًا في شركة بريغوجين القابضة، والذي زُعم أن بريغوجين طلب منه شخصيًا التجسس على الصحيفة.
وبرز اسم وكالة أبحاث الإنترنت في عناوين الأخبار عالميًا بعد أن أطلقت حملات تضليل على الإنترنت تهدف إلى التأثير على الانتخابات الرئاسية لعام 2016. وفي أوائل عام 2018، تم توجيه الاتهام إلى بريغوجين نفسه في الولايات المتحدة. لكنه نفى تلك التهم حينها قائلًا "الأميركيون أناس شديدو التأثر. وإذا كانوا يريدون رؤية الشيطان، فليروه".
صعود بريغوجين ونشاطات فاغنر إلى السطح
حتى تلك المرحلة، لم يكن بريغوجين اسمًا مألوفًا في الولايات المتحدة. في روسيا أيضًا، اتخذ خطوات جادة للبقاء بعيدًا عن الأضواء. ففي عام 2016، استفاد بريغوجين من قانون "الحق في النسيان" الجديد حينها، في محاولة لإجبار ياندكس، محرك البحث الروسي الشهير، على حذف المقالات الناقدة له من نتائج البحث.
ووفقًا لملف تعريفي خاص ببريغوجين نشرته صحيفة ذا نيويورك تايمز عام 2018، وجد الصحفيون الروس صعوبة في ربطه مباشرةً بشركاته المختلفة، التي ظلت علاقاتها مع بعضها البعض غامضة. كما أنه لم يُجرِ المقابلات إلا نادرًا، وواجه الصحفيون الذين حققوا في شؤونه تهديدات في بعض الأحيان.
وعندما كتبت صحيفة نوفايا جازيتا عن بريغوجين، في عام 2018 أيضًا، تم إرسال إكليل جنازة إلى الصحفي الذي كتب القصة، وورد أن غرفة الأخبار في الصحيفة تلقّت رأس حيوان مقطوع وخروفٍ في قفص يرتدي سترات تحمل اسم الصحيفة.
بحلول ذلك الوقت، كانت مجموعة فاغنر قائمة ولها نشاطات عسكرية في أماكن نزاع عدة، حيث كان لها بصمات في أوكرانيا وفي سوريا وحتى بلدان مختلفة في إفريقيا، إذ قدمت خدمات عسكرية للحكومات مقابل حصولها على الموارد الطبيعية الثمينة، من بين مزايا أخرى.
وكما هو الحال مع بريغوجين نفسه، كانت عمليات فاغنر محاطة بالسرية. ففي عام 2018، سافر ثلاثة مراسلين روس يعملون في صحيفة صحيفة مانجمنت سنتر التي يمولها ميخائيل خودوركوفسكي، وهو رجل أعمال روسي منفي عارض بوتين علانية، للتحقيق في أنشطة فاغنر في جمهورية إفريقيا الوسطى. وبعد ثلاثة أيام، وُجدوا مقتولين على جانب طريق.
ألقت السلطات المحلية حينها باللوم على مجرمين محليين، لكن سي إن إن ذكرت لاحقًا أنّ عمليات القتل قد تم تدبيرها على ما يبدو من قبل ضابط شرطة كبير على صلة بفاغنر، لكن بريغوجين نفى مجددًا أي صلة له بالأنشطة الروسية في جمهورية إفريقيا الوسطى، واقترح لاحقًا دفع تكاليف نصب تذكاري للصحفيين في المكان الذي ماتوا فيه. وفي الوقت نفسه، اتُهمت فاغنر بشن حرب إعلامية في كل من جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي. ووفقًا لتحقيق أجرته مجلة كولومبيا للصحافة، قام كلا البلدين بتضييق الخناق على الصحفيين، وخاصة من وسائل الإعلام الفرنسية، بعد وصول قوات فاغنر.
تحقيقات تكشف نشاطات بريغوجين
في السنوات الأخيرة، وجد بريغوجين نفسه على رادار غرف الأخبار الاستقصائية الدولية. ففي عام 2019، ذكرت شبكة سي إن إن، نقلًا عن وثائق مسربة، أنّ شركة مرتبطة ببريغوجين اقترحت على الرئيس السوداني المعزول عمر البشير إطلاق حملة تضليل منسّقة وعمليات إعدام علنية ردًا على الاحتجاجات التي خرجت ضده وأطاحت به في ذلك العام.
وفي عام 2020، نشرت كلّ من منصة بيلينغ كات للمصادر المفتوحة وصحيفتي دير شبيغل وذا إنسايدر سلسلةً من القصص عن بريغوجين، والروابط بين عملياته والدولة الروسية، واتهامه بالمراقبة المنهجية غير القانونية والترهيب والمضايقة للصحفيين والمدونين، في كل من روسيا وخارجها، والتي يجريها جهاز بريغوجين الأمني بالتواطؤ مع الكرملين و/أو بالمساعدة المباشرة من أجهزة الأمن الروسية، من بين أمور أخرى، ومن بين الأهداف المزعومة كان فريق سي إن إن في جمهورية أفريقيا الوسطى.
ردًا على هذا النوع من التحقيقات، شرع بريغوجين في توظيف محامين غربيين لمقاضاة الصحفيين الذين أبلغوا عن ادعاءات مختلفة عنه، بما في ذلك الحقيقة الأساسية لعلاقاته مع فاغنر. ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة فاينانشيال تايمز، نسّقت شركة محاماة روسية الإجراءات القانونية نيابة عن بريغوجين ضمن ما سمته "مشروع هاملت".
وفي عام 2021، قاضى بريغوجين مؤسس بيلينغ كات إيليوت هيغينز في بريطانيا، وبحلول هذه المرحلة، كان بريغوجين هدفًا للعقوبات المالية في ذلك البلد، لكن وزارة المالية البريطانية منحت استثناءً خاصًا لتلك القضية من أجل أن تمضي قدمًا، لكن في النهاية، خرجت القضية عن مسارها مع الغزو الروسي لأوكرانيا.
وحول ما إذا كان ينبغي السماح للأوليغارشيين الروس بإساءة استخدام قوانين التشهير البريطانية لإسكات الصحفيين، شعر محامو بريغوجين في لندن بالتردد وأسقطو الدعوى، وفقًا لصحيفة فاينانشيال تايمز. واتهم بريغوجين المملكة المتحدة بأنّها مصابة بـ "رهاب روسيا"، وفي مايو/أيّار الفائت، أُسقطت القضية بشكلٍ نهائي.
بريغوجين يعترف بتأسيس فاغنر ووكالة أبحاث الإنترنت
في نهاية المطاف، أسقط بريغوجين القناع. وفي سبتمبر/أيلول الفائت، ظهر الأخير في مقطع فيديو يقدم نفسه فيه لسجناء الروس كممثل لمجموعة فاغنر، واعترف بعد ذلك علنًا بتأسيس المجموعة في عام 2014 قائلًا: "لقد قمت بتنظيف الأسلحة القديمة بنفسي"، كما تفاخر، بملكيته لوكالة أبحاث الإنترنت أيضًا، فقال "لم أكن ممولًا لوكالة أبحاث الإنترنت فقط. لقد أنشأتها، صنعتها، وتمكنت من إدارتها لفترة طويلة".
ومنذ خروجه رسميًا من الظل، تزايد حديث بريغوجين الصريح عن حرب أوكرانيا، التي كان مقاتلوه لاعبين أساسيين فيها، وكما قالت أليس سبري من صحيفة ذا إنترسيبت "أصدر بريغوجين العشرات من التصريحات المنمقة في كثير من الأحيان للصحفيين من خلال ذراع العلاقات العامة في فاغنر، بينما يتجه أيضًا بشكل متزايد نحو تطبيق تيليجرام لإطلاق الانتقادات ضد منافسيه في روسيا".
أثار هذا غضب الكرملين، الذي أمر وكالات الأنباء الحكومية، وفقًا لموقع الأخبار الروسي المستقل فيرستكا، بالتوقف عن الاقتباس من بريغوجين ما لم يكن، على سبيل المثال، ينقل أخبارًا جيدة من ساحة المعركة. وفي الشهر الفائت، أجرى صحفي في موقع تيليجا أونلاين المؤيد للكرملين مقابلة صريحة مع بريغوجين، وتم طرده، بحسب تلفزيون ذا كورنت تايمز الروسي. ثم جاء تمرّد قوات فاغنر على الجيش الروسي، الذي أعلنه بريغوجين عبر سلسلة من الرسائل المنشورة على تطبيق تيليغرام.
مصير بريغوجين بعد تمرّد فاغنر
لم يتضح بعد ما الذي قد يحدث لبريغوجين بعد قيادته تمرّد فاغنر على الجيش الروسي، لكن جزءًا من الصفقة التي عقدها مع بوتين لإلغاء تمرده، يبدو أنه انطوى على موافقته على الذهاب إلى شكل من أشكال المنفى في بيلاروسيا مقابل الحصانة القانونية. لكن العديد من وسائل الإعلام الروسية المرتبطة بالدولة أفادت يوم الاثنين الفائت أن بريغوجين ما زال في خطرٍ قانوني، ما جعل بريغوجين نفسه "ضحية للتضليل الروسي"، بحسب إيليوت هيغينز مؤسس بيلينغ كات.
ولكن صباح الثلاثاء 27 يونيو الجاري، أعلنت أجهزة الأمن أنه تم إغلاق القضية المرفوعة ضده رسميًا. لكن بالنظر إلى سجل بوتين الحافل بالأعمال الانتقامية خارج نطاق القضاء، فإن هذا قد لا يعني أن بريغوجين لن يواجه عواقب تمرده، وقد وصف العديد من المحللين تمرده على أنه لم يكن مدفوعًا بإظهار القوة بقدر ما هو مدفوع باليأس، وذلك في مواجهة ضغط الحكومة المتزايد للسيطرة على مقاتلي مجموعته.
ومع ذلك، وفق ما أشار ماكس سيدون، مدير مكتب فاينانشيال تايمز في موسكو، فإنّ بريغوجين يضع على الأقل جدول الأعمال بطريقة ليس لها سابقة في روسيا بوتين. وبعد أن كسر بريغوجين صمته، بدا أن بوتين شعر بأنه مضطر للرد في خطاب متلفز، رغم أنه لم يظهر في خطاب منذ فبراير/شباط الفائت.
المصادر
اقرأ/ي أيضًا:
تمرد فاغنر على الجيش الروسي: ما قصّته وما هي أبرز المعلومات المضللة عنه؟
بريغوجين لم يذكر في الفيديو أن الجزائر طلبت إرسال مجموعة فاغنر إلى الحدود مع مالي