منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لم يتبنَّ الاتحاد الأوروبي موقفًا موحدًا تجاه الحرب ومسألة وقف إطلاق النار. فبينما كانت بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا تقدم دعمًا إعلاميًا واقتصاديًا وعسكريًا لإسرائيل، وتتجنب الانتقادات العلنية لسياساتها، كانت هناك دول على الجانب الآخر مثل إيرلندا والسويد وإسبانيا تنتقد بشدة الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان وتدعو إلى حماية حقوق الفلسطينيين، وتدعم جهود وقف إطلاق النار.
ومنذ بداية الحرب ضغطت جهات إسرائيلية رسمية وغير رسمية، وقادت جماعات تأثير حملة إعلامية متعددة الأوجه، تهدف لعكس صورة غير دقيقة بأن موقف أوروبا مؤيد لإسرائيل عمومًا أو يجب أن يكون كذلك، في الوقت الذي حاولت فيه حملات أخرى تشويه موقف الدول الأوروبية المساندة للفلسطينيين. وقادت تلك الجهات حملة ضغط ضد بعض الدول الأخرى التي حاولت تغيير موقفها على خلفية تصاعد العنف الإسرائيلي، وصوّرت إثر ذلك المطالبات بوقف إطلاق النار، ومساندة الفلسطينيين، بأنها تصب في مصلحة حماس وبأنها تأييد لها.
يراجع مسبار في هذا التقرير جزءًا من الحملة الإعلامية التي قادتها عدة حسابات إسرائيلية منذ بداية الحرب، بهدف تشويه الحقائق والضغط على الدول المساندة للفلسطينيين بشكل يصب في مصلحة إسرائيل.
واجهت إسبانيا حملة إعلامية واسعة حاولت تشويه موقف البلاد تجاه إسرائيل
منذ بدء الحرب على غزة، دعت إسبانيا مرارًا وتكرارًا إلى وقف إطلاق النار، ووجهت انتقادات حادة لسياسات إسرائيل والعنف الذي تمارسه ضد المدنيين هناك، وفي مايو/أيار 2024 اعترفت البلاد إلى جانب أيرلندا والنرويج بالدولة الفلسطينية.
في أكتوبر/تشرين الأول 2023، صرحت وزيرة المساواة الإسبانية، إيريني مونتيرو، بضرورة فرض عقوبات على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ودعت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. وصرحت مونتيرو آنذاك بالقول "نحن مسؤولون عن إيقاف نتنياهو وعدم المشاركة في جريمة الإبادة الجماعية المخطط لها التي ترتكبها دولة إسرائيل"، نتيجة لذلك إلى جانب سلسلة من المواقف الرسمية الإسبانية، تعرضت البلاد لحملة إعلامية وضغوط إسرائيلية مكثفة بهدف ثنيها عن مواقفها، بالإضافة لحملة على وسائل التواصل الاجتماعي لتشويه موقف البلاد، وحرف الحقائق.
ومع أن دستور إسبانيا يكفل حرية التعبير وتنظيم الفعاليات السياسية، في إطار حق المواطنين في التظاهر والتعبير عن آرائهم، إلا أن الحملة على وسائل التواصل الاجتماعي حاولت تصوير الحكومة الإسبانية بأنها متسامحة مع خطاب الكراهية والإرهاب. وسعت الحملة الإسرائيلية إلى تصوير المسيرات المؤيدة للقضية الفلسطينية التي تُنظّم في البلاد على أنها داعمة للإرهاب.
ما دامت إسبانيا لا تؤيد أفعال إسرائيل فهي حالة “شاذة” في أوروبا
قادت حسابات إسرائيلية مؤخرًا حملة انتقادات واسعة ضد إسبانيا، بسبب سماحها بتنظيم فعاليات لحركة نقابية وطلابية فلسطينية تُعرف باسم "حركة المسار الفلسطيني الثوري البديل"، التي تُنظِّم فعاليات سياسية في العاصمة الإسبانية.
في مقال نشرته ماشا غابرييل، المسؤولة عن القسم الإسباني في منظمة "كاميرا"، وهي مجموعة ضغط مؤيدة لإسرائيل، في الأول من أكتوبر الجاري، حثت فيه الحكومة الإسبانية على منع المظاهرات المؤيدة لفلسطين، والتي كانت متوقعة في ذكرى مرور عام على الحرب على غزة. زعمت غابرييل أن هذه المظاهرات تدعم هجمات حركة حماس التي وقعت في أكتوبر 2023، كما زعمت أن المظاهرات تدعم منظمات فلسطينية وصفت بـ “الإرهابية" مثل منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي تعليقها على هذه الفعاليات، وصفت غابرييل تمكين الفلسطينيين من التعبير عن آرائهم في إسبانيا بأنه استثناء عن النهج المتبع في الدول الأوروبية الأخرى، محذرة من أن إسبانيا قد تصبح حالة شاذة في الاتحاد الأوروبي إذا لم تتخذ إجراءات لمنع هذه المظاهرات.
وصوّر المقال وجود عداء من الحكومة الإسبانية تجاه إسرائيل، وحاول تشويه صورة وسائل إعلام إسبانية كانت قد انتقدت بشدة سياسات إسرائيل وحملتها العسكرية العنيفة على قطاع غزة.
استخدم المقال لغة دعائية مضللة، وادعى أن إسبانيا تقف إلى جانب الإسلاميين المتطرفين والإرهابيين، في الوقت الذي يجب أن تدعم فيه “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، في إشارة إلى إسرائيل. وكان ذلك في سياق حملة تهدف إلى تشويه المواقف الإسبانية المؤيدة للفلسطينيين، وتصويرها على أنها تقف ضد المبادئ الديمقراطية لصالح قوى العنف والإرهاب.
المقال الذي يحاول تصوير الجانب الفلسطيني بالطرف الأقل "حضارة" يتناغم مع السردية الرسمية الإسرائيلية التي بدأت مع الحرب على غزة وقادها مسؤولون إسرائيليون آنذاك، كرئيس الوزراء نتنياهو، والتي حاولت تبرير العنف ضد الفلسطينيين وتصويرهم أمام الرأي العام الغربي بأنهم أقل رقيًّا وتقدمًّا وأقرب للتطرف.
يُذكر أن تقريرًا سابقًا لمسبار كشف عن دور مؤسسة كاميرا في توجيه الرأي العام ووسائل الإعلام، بشكل يفتقر للدقة وينحاز لصالح إسرائيل.
إسبانيا “جنة للكراهية” كونها تسمح للمظاهرات المؤيدة للفلسطينيين!
على المنوال ذاته، تحركت حسابات رسمية إسرائيلية، مثل حساب وزارة الخارجية، لتروّج مزاعم تفيد بأن إسبانيا، بسماحها للمظاهرات المؤيدة لفلسطين، ستتحول إلى "جنة للكراهية". جاء هذا الاتهام ضمن ادعاءات بأن المظاهرات في إسبانيا تمجّد الإرهاب، وهي مزاعم غير دقيقة لعدة اعتبارات، منها بأنه من المفترض أن أي شخص لو رفع شعارات تخالف القانون الإسباني خلال المظاهرات يجب أن يُحاسب بشكل فردي، دون المساس بحق المجموعات الأكبر في ممارسة حق حرية التعبير والتظاهر.
التصحيحات على المنشورات الإسرائيلية ما تزال تختفي بدون مبرر
بعد منشور الخارجية الإسرائيلية تدخل "برنامج ملاحظات المجتمع" على منصة إكس، ليضيف ملاحظة تصحيحية تفيد بأن القانون الإسباني يكفل حرية التعبير، وأنه لا توجد أدلة تشير لارتباط المنظمات التي ذكرتها الخارجية الإسرائيلية بالإرهاب. مع ذلك، اختفت الملاحظة أو تم حذفها لأسباب غير معروفة، إلا أنّ "مسبار" احتفظ بنسخة عنها.
الجدير بالذكر أن هذا الأسلوب لم يكن جديدًا، إذ رصد مسبار في تحقيقات سابقة عدة حالات اختفاء لتصحيحات مجتمع إكس على المنشورات التي تنتقد محتوى مضلل أو تروّج لمزاعم كاذبة لصالح إسرائيل.
المطالبة بوقف الحرب والتسليح سيواجه بحملة دعائية كبرى
انحازت فرنسا منذ بداية الحرب لدعم إسرائيل، مع تأكيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لاحقًا، ضرورة التفريق بين المدنيين في قطاع غزة وحركة حماس. إلا أن موقف فرنسا تبدل نوعًا ما مؤخرًا، وذلك بالنظر لتصريحات مسؤولي البلاد، وبحسب التصريحات الرسمية، كان الهدف الفرنسي مؤخرًا تعزيز الجهود الرامية إلى وقف إطلاق النار في كل من قطاع غزة ولبنان، من خلال الدعوة التي أطلقها ماكرون لوقف تدفق الأسلحة إلى إسرائيل.
مبادرة فرنسا جرى التلاعب في مضمونها وتعرضت لحملة تشويه واسعة من قبل الحسابات الإسرائيلية، التي حاولت تفسيرها على أنها محاولة لإنقاذ حماس. واستُخدمت في الحملة كثير من المنشورات الساخرة، إضافة إلى صور مضللة ومولدة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وصلت إلى مرحلة وصفِ الرئيس الفرنسي بالنازي، وتعزيز فكرة أن وقف إطلاق النار يصب في مصلحة حماس. الحملة كانت تهدف إلى تشويه الرواية الفرنسية والضغط على المسؤولين الأوروبيين لردعهم عن توجيه أي انتقادات لسياسات إسرائيل.
تصاعدت وتيرة الحملة عقب التصريح الناقد الذي أطلقه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الخامس من أكتوبر الجاري، عندما خاطب ماكرون قائلًا "عار عليك" بعد اقتراح الأخير وقف تزويد إسرائيل بالأسلحة. حاولت الحسابات التي تنشر منشورات مضللة الترويج للسردية الإسرائيلية وخلق حالة عامة مضادة لجهود وقف إطلاق النار.
على خلفية مواقفها.. إيرلندا تعرضت إلى جانب دول أوروبية أخرى لحملة تشهير واسعة
كانت مواقف إيرلندا منذ بدء الحرب على غزة أكثر وضوحًا فيما يخص انتقاد سياسات إسرائيل، فمنذ أكتوبر 2023 صرح رئيس الوزراء الإيرلندي ليو فارادكار، بأنّ إسرائيل تمارس عقابًا جماعيًا في قطاع غزة. وفي ديسمبر/كانون الأول 2023 حاولت إيرلندا قيادة جهود حثيثة لصياغة موقف أوروبي عادل وموحد بشأن الفلسطينيين خلال قمة بروكسل آنذاك.
أوضحت إيرلندا بأنه على الأوروبيين بألا يستخدموا المعايير المزدوجة تجاه التعامل مع الحرب على غزة، لأن ذلك سيضع صدقية الدول الأعضاء على المحك، ودعت إيرلندا مرارًا الزعماء الأوروبيين للتحلي بالحكمة عند التعامل مع معاناة الفلسطينيين، بالإضافة لدعوات واسعة مرارًا لوقف إطلاق النار في غزة.
إيرلندا شريك لحماس طالما تنتقد ممارسات إسرائيل
في ديسمبر 2023، اعتقلت إسرائيل في قطاع غزة، مجموعة من الأشخاص وصورتهم وهم عراة ومعصوبو الأعين، بطريقة مهينة، وزعمت أن هؤلاء الأشخاص هم 100 عنصر من حركة حماس، زعمت أنّ اعتقالهم جرى بعد خروجهم من الأنفاق شمالي قطاع غزة، ليظهر تحقيق لمسبار آنذاك أن عددًا ممن تم التعرف عليهم هم أشخاص مدنيون.
وفي الشهر نفسه نشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي في 14 ديسمبر، مشاهد ادّعى أنها لـ"استسلام أكثر من 70 من قوات حماس في منطقة مستشفى كمال عدوان في غزة"، ليكشف مسبار أيضًا في تحقيق آخر، عن ثغرات في الرواية الإسرائيلية وأن بعض ممن تم التعرف عليهم هم أيضًا مدنيون.
كانت مشاهد الناس وهم عراة قاسية جدًا وأثارت تعاطف الكثيرين حول العالم. وفي إيرلندا، خرجت مظاهرات عدة، كتلك التي نظمها أفراد وجماعات تابعة للحزب الشيوعي الإيرلندي الذي قدم بيانًا لدعم فلسطين في نوفمبر 2023. وكانت المظاهرات تحاول فضح أسلوب إسرائيل المهين للأشخاص عند اعتقالهم، من خلال محاكاة تلك الممارسات بمشاهد تمثيلية، لتقوم حملات تروّج لإسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي، بالعمل على إسكات هذه الأصوات بتكرار مزاعم أنهم يتبعون لحماس وأن المظاهرات مؤيدة للإرهاب.
على غرار ما جرى في دول أوروبية أخرى عملت منظمات ضغط عديدة، على استهداف المظاهرات المؤيدة لفلسطين بمزاعم كاذبة، كالخلط بين الشعارات التي رفعتها المظاهرات وكانت تعادي الصهيونية، للزعم بأنها شعارات تعادي اليهود.
استمرت الحملة على وسائل التواصل الاجتماعي طوال العام الفائت، بنشر كثيف لتتخذ زخمًا واسعًا انتشر على إثره وسم (هاشتاغ) #Hamas Ireland الذي ألصق اسم البلاد بحركة حماس. وعندما اعترفت إيرلندا في 28 مايو بالدولة الفلسطينية نشر وزير خارجية إسرائيل منشورًا زعم فيه أن هدف أيرلندا من هذا الاعتراف هو مكافأة الإرهاب.
شبح الإسلاموفوبيا يُوظَّف لحرف الحقائق
حاولت حسابات مؤيدة لإسرائيل البحث عن مداخل لإقناع الرأي العام الغربي بعدم مساندة الفلسطينيين، وتعزيز السردية الرسمية الإسرائيلية بشكل مضلل، ومن أحد هذه المداخل برز أسلوب استغلال مشاعر الخوف والقلق في الرأي العام الغربي، وذلك من خلال استخدام عنصر التخويف من المسلمين، باستغلال موجة العداء للمهاجرين في أوروبا، ومحاولة تصوير تأييد الفلسطينيين بأنه تعزيز للعنف والإرهاب ومساهمة في تصاعد أزمة الهجرة.
ركزت الحملة على مقاطع فيديو مضللة، وأحداث فردية قد تكون حقيقية أحيانًا، تظهر عنف ارتكبه مهاجرون أو أشخاص غير معروفين، لتضخيم صورة مشوهة عن المسلمين والفلسطينيين والمساندين لهم في أوروبا، وتربط بين هذه الأحداث وتأييد فلسطين بمعزل عن السياق.
قادت هذه الحملة مجموعة من الحسابات البارزة، مثل حساب "الدكتور إيلي ديفيد"، الذي عمد إلى نشر مزاعم مغلوطة ومقاطع فيديو متزامنة مع أحداث سياسية رئيسية دعمت القضية الفلسطينية.
على سبيل المثال، عندما صوتت دول أوروبية، مثل بلجيكا، فرنسا، إيرلندا، وإسبانيا، لصالح قرار من الأمم المتحدة الداعي إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، نشر الحساب فيديو مضللًا. يُظهر الفيديو صخرة كبيرة تحمل عبارة "لا إله إلا الله" كرمز للمسلمين، وهي تتدحرج نحو صخرة أخرى عليها علم الاتحاد الأوروبي، في حين كانت صخرة في الوسط، تحمل علم إسرائيل، تحاول منع الصخرة الأولى من الوصول. الفيديو يهدف إلى تعزيز مزاعم أن إسرائيل تمثل الحصن المدافع عن أوروبا في وجه "الخطر الإسلامي" المزعوم، مجسدًا الفلسطينيين وغيرهم كتهديد وجودي، وفي المحصلة دافع لتبرير العنف ضدهم.
هذا النوع من التلاعب في السرد الإعلامي العام يعكس استراتيجية متعمدة لربط النضال الفلسطيني ومساندته، بإثارة مشاعر الخوف من المسلمين والهجرة، في محاولة لتشويه صورة المظاهرات المؤيدة لفلسطين وصرف الأنظار عن جوهر القضايا الإنسانية والسياسية، ومعاناة المدنيين في غزة. ولا يكمن خطر هذه الحملات في تشويه الحقائق فقط، بل يعمل أيضًا على تعزيز الانقسام الاجتماعي واستغلاله لأهداف سياسية.
كما قادت صفحات يمينية متطرفة، مثل صفحة RadioGenoa، حملات ترويجية لمزاعم مشابهة تهدف إلى استغلال مشاعر كراهية الإسلام لتصوير المظاهرات المؤيدة لفلسطين على أنها عنيفة.
استخدمت هذه الصفحات مصطلحات عنصرية وأفكارًا مسبقة ومضللة عن المسلمين والفلسطينيين، مثل الادعاء بأن العنف متأصل في حمضهم النووي (DNA)، وأن هناك مؤامرة يجري التخطيط لها من قبل التيار اليساري الأوروبي بالتعاون مع المسلمين للسيطرة على أوروبا، وهو ما يظهر، وفقًا لادعائهم، من خلال المظاهرات المؤيدة لفلسطين.
اقرأ/ي أيضًا
بعد عام من الحرب: جهود متواصلة من منظمات ضغط لتوجيه وسائل الإعلام لصالح إسرائيل