يشهد موضوع محو الأمية الإعلامية اهتمامًا متزايدًا كأحد الأساليب لمكافحة المعلومات المضللة. يهدف هذا المجال إلى تزويد الأفراد بالمهارات اللازمة لفهم وتحليل المحتوى الإعلامي بشكل نقدي، والتمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة أو الزائفة. في الآونة الأخيرة، أصبحت برامج محو الأمية الإعلامية جزءًا أساسيًا من جهود المؤسسات والحكومات لمواجهة ظاهرة التضليل.
تتعدد أشكال برامج محو الأمية الإعلامية وتتطور باستمرار، بدءًا من البرامج التعليمية للطلاب في المدارس، كما حدث مؤخرًا في بريطانيا وأستراليا، وصولًا إلى الدورات التدريبية عبر الإنترنت وحملات التوعية الإعلامية بالتعاون مع وسائل الإعلام والشركات.
من ناحية أخرى، هناك توجه نحو تبسيط هذا الموضوع وجعله أكثر متعة، دون التفريط في العمق والشرح الضروري الذي يعزز التفكير النقدي، وذلك من خلال تطوير ألعاب إلكترونية تساهم في تعليم هذه المهارات بطريقة تفاعلية.
أسلوب جديد لتطوير ألعاب تحارب التضليل بالسرد القصصي العاطفي
أشارت دراسة محكمة نشرتها مجلة "Misinformation Review" التابعة لجامعة هارفارد في 26 سبتمبر/أيلول الجاري إلى أهمية الألعاب الإلكترونية المصممة لتصحيح المعلومات الخاطئة، ولكن يجب أن يكون هنالك أسلوب غير تقليدي في تصميم هذه الألعاب.
فبينما ظهرت العديد من الألعاب التي تهدف إلى تعزيز الوعي الإعلامي ومساعدة الناس على التمييز بين المعلومات الصحيحة والمغلوطة. تكمن المشكلة في أنها كانت غالبًا تعتمد بشكل كبير على تقييم دقة المعلومات فقط، ولا تركز بما يكفي على التأثيرات الاجتماعية والعاطفية التي تجعل الناس يصدقون المعلومات المغلوطة، إذ إن التعاطف أو الارتباط مع القصص يمكن أن يؤثر على معتقدات الأفراد وكيفية فهمهم للمعلومات.
طوّرت الدراسة إطار عمل يساعد مصممي الألعاب على إنشاء ألعاب موجهة نحو السرد القصصي لمواجهة المعلومات المضللة. هذا الإطار يعتمد على نتائج أبحاث في علم النفس، نظريات السرد، وتصميم الألعاب. كما أجرت الدراسة تحليلًا معمقًا لمحتوى الألعاب الحالية التي تعزز الوعي الإعلامي وركّزت على كيفية استخدام السرد القصصي فيها.
السرد كطريقة للتعلم وتعديل السلوكيات المحفزة لتصديق المعلومات المضللة
يرى الباحثون أن السرد القصصي في مقابل التصحيح التقليدي، يُعدّ وسيلة فعالة في تحفيز التغيير السلوكي وتعميق الفهم لدى اللاعبين. إذ يمكن للألعاب السردية أن تجعل اللاعبين أكثر تعاطفًا مع وجهات النظر المعارضة لآرائهم وتقلل من استجابتهم الدفاعية الحادة، مما يصب في مصلحة كسر التشبث بالآراء رغم عدم صحتها، وبالمحصلة يساعد في تصحيح المفاهيم الخاطئة.
أشار الباحثون أيضًا أن السرد القصصي يُعد أداة قوية للتعلم، فهو يتجاوز الطرق التقليدية لنقل المعرفة، ففي سياق الألعاب السردية الموجهة لمكافحة المعلومات المضللة، يلعب السرد دورًا مركزيًا في تحفيز التغيير السلوكي لدى اللاعبين من خلال جعلهم يعيشون التجربة وكأنهم جزء منها.
هذا التفاعل المباشر مع السرد يساعد في تطوير التعاطف مع وجهات نظر قد تكون معارضة لما يؤمنون به، مما يقلل من ردود الفعل الدفاعية المعتادة والرافضة للتصحيح والتي تظهر عند محاولة تصحيح المعلومات الخاطئة بالطرق التقليدية.
الألعاب القائمة على السرد قادرة على تعديل السلوك إيجابيًا بشكل غير مباشر
تُظهر الأبحاث التي راجعتها الدراسة أن قدرة اللاعب على التعاطف مع الشخصيات والمواقف المعروضة في اللعبة يمكن أن تؤدي إلى تأثيرات نفسية عميقة، مما يساعده على فهم العوامل النفسية والاجتماعية التي تُسهم في انتشار المعلومات المضللة.
عندما يصبح اللاعب متورطًا عاطفيًا في القصة، ينفتح عقله على احتمالات جديدة، ويبدأ في تقليل الميل لتجاهل أو رفض الأفكار التي تتعارض مع معتقداته الحالية. هذه القدرة على خفض مقاومة الدفاع النفسي تجعل السرد أداة فعالة ليس فقط في تصحيح المعلومات الخاطئة، ولكن أيضًا في تغيير السلوكيات والمواقف التي تسهم في انتشار تلك المعلومات.
بالإضافة إلى ذلك، الألعاب السردية تقدم منصة تسمح للاعبين بتطوير مهارات جديدة مثل التفكير النقدي والتحليل الذاتي، إذ يتم تشجيعهم على التفاعل مع المعلومات وتقييم مصداقيتها بناءً على تجاربهم داخل اللعبة. وبالتالي، يصبح اللاعب أكثر استعدادًا لتطبيق هذه المهارات في الحياة الواقعية، مما يساهم في تعزيز مقاومته للمعلومات المضللة والمساهمة في تقليل انتشارها.
النموذج يبشر بتطوير طرائق أعمق لفهم ومكافحة المعلومات المضللة
يهدف النموذج الذي طوّره الباحثون إلى تعزيز الوعي العاطفي، من خلال العمل على دمج الطرق لذلك في خوارزميات تصميم الألعاب، ويقول الباحثون بأنه غالبًا ما تؤثر المعلومات المضللة على الأفراد من خلال التلاعب بمشاعرهم، كالخوف أو الغضب أو التعاطف. لذلك، تسعى الألعاب التعليمية إلى توعية اللاعبين بالدور الذي تلعبه العواطف في تقبل المعلومات أو رفضها.
من خلال سرد القصص وسمات الشخصيات التي تتفاعل مع المعلومات المضللة، سيكتسب اللاعبون فهمًا أعمق لكيفية تأثير العواطف على تفكيرهم واستجاباتهم.
فهم كيفية التحقق من المعلومات الخاطئة وسياق نشرها
يريد القائمون على النموذج دعم مطوّري الألعاب بخطط لبناء خوارزميات تسمح بتعليم اللاعبين كيفية التحقق من دقة المعلومات التي يتعرضون لها عبر الإنترنت. إذ توفر الألعاب المستهدف تطويرها أدوات وأساليب تتيح للاعبين اختبار صدقية المصادر وفهم العوامل التي تؤثر على انتشار المعلومات المضللة.
يشمل ما سبق التفكير في السياق الذي تُنشر فيه المعلومات، والدوافع المحتملة وراء نشرها، وما إذا كانت تستند إلى حقائق أو مجرد آراء أو تحريفات، وليس كونها خاطئة أو صحيحة فقط، الأمر الذي سيوفر نوع من التمّرس في سرعة اكتشاف الأفراد لنبرة التضليل في المعلومات التي يواجهونها.
التركيز على التفاعل الاجتماعي في الألعاب السردية
تتجه الدراسة نحو تقليل التركيز على الأسلوب الفردي في مواجهة المعلومات المضللة، إذ إن تحميل الفرد وحده مسؤولية التحقق من صحة المعلومات قد لا يكون دائمًا النهج الأمثل. فهناك عدة عوامل قد تجعل الفرد غير قادر بمفرده على التصدي للمعلومات المضللة، كالعوامل غير الواعية مثل هفوات الانتباه.
يشجع النموذج على أن تكون مهمة مكافحة التضليل أكثر جماعية، مما يعزز القدرة على مواجهتها بمساعدة الآخرين. كما تُوصي الدراسة بتصميم ألعاب سردية قادرة على تعزيز التفكير الجماعي والنقاش حول المعلومات المضللة. ويمكن أن يكون للألعاب الاجتماعية تأثير أكبر عندما يشارك اللاعبون تجاربهم مع بعضهم البعض ويناقشون القرارات التي اتخذوها خلال اللعب.
بناء درع لدى الأشخاص ضد المعلومات الكاذبة
الهدف النهائي للألعاب التعليمية المبنية على خلفية دراسات عابرة للتخصصات وتركّز على الجانب العاطفي والسرد، هو بناء مقاومة قوية لدى الأفراد ضد المعلومات الخاطئة.
من خلال التفاعل مع السيناريوهات التي تتضمن معلومات مضللة، يتوقع أن يتعلم اللاعبون كيفية التصدي لتلك المعلومات والتعامل معها بطرق أكثر ذكاءً وفعالية. هذه التجارب العملية من المتوقع أبضًا أن تمكنهم من الاستجابة بشكل أفضل للمعلومات المغلوطة والزائفة في حياتهم اليومية، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو خلال المحادثات الشخصية.
اقرأ/ي أيضًا
الألعاب الإلكترونية ومحاربة الأخبار الكاذبة
تبسيط تصحيح المعلومة المضللة يزيد فعالية مكافحتها: منهجية مسبار مثالًا