يوم الجمعة الفائت، 13 مايو/أيّار 2022، شُيّعت جنازة الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، فخرج المشيّعون يحملون النعش من المستشفى الفرنسي لدفن الجثمان في مقابر جبل صهيون إلى الجنوب من المستشفى الواقعة في مركز القدس.
وعلى بعد أمتار من بوابة المستشفى، وثّقت الكاميرات اعتداءات الشرطة الإسرائيلية على المُشيّعين وحاملي النعش، ما أثار استنكار مسؤولين غربيين وصفوا الاعتداءات الإسرائيلية بـ"المقلقة وغير المبررة".
موجة الاستنكار تلك دفعت الشرطة الإسرائيلية إلى إعادة تفعيل النشر عبر حسابها في موقع تويتر، بعد توقفٍ منذ يناير/كانون الثاني الفائت، وأصدرت بيانًا تبرّر فيه الاعتداء على مشيّعي جنازة شيرين أبو عاقلة، أعقبته بمقطع فيديو قالت إنّه يُظهر اعتداء المشيعين على قواتها. وأخيرًا بيانًا أشارت فيه إلى فتح تحقيق في الحادث، وذلك بعد أن أكّدت في أوّل البيان أنّ "مثيري شغب حاولوا تخريب الجنازة وإلحاق الأذى بالشرطة".
في الخامسة و50 دقيقة مساء يوم الجمعة 13 مايو، أيّ بعد نحو خمس ساعات على خروج جثمان شيرين أبو عاقلة من المستشفى الفرنسي، نشر حساب الشرطة الإسرائيلية على تويتر بيانًا برّر فيه استخدام العنف ضد مشيعي جنازة أبو عاقلة أمام المستشفى.
كما يتضّح، ادّعت الشرطة الإسرائيلية في بيانها أنّها عملت على ضمان سير الجنازة بسلاسة ودون عراقيل، قبل أن تبدأ أعمال شغب، فاضطرت وفقًا للبيان، أن تتعامل معها.
جاء في البيان "ألقى مثيرو الشغب الحجارة وأشياء أخرى على أفراد الشرطة الذين عملوا على تفريق أعمال الشغب تلك، واعتقلوا مجموعة من مثيري الشغب للسماح بمواصلة الجنازة بشكل آمن وشرعي". وأضاف بأنّ "مثيرين للشغب" ممن كانوا بالقرب من النعش، هم من بدؤوا بإلقاء الحجارة وإتلاف عربة الموكب الجنائزي.
يوحي البيان بأنّ من بين المشيعين، الأكثر قربًا من النعش، من بدأ بإثارة الشغب الذي استفز الشرطة الإسرائيلية فاضطرت للتعامل معه. ووفقًا للبيان الإسرائيلي أيضًا، فإنّ أعمال الشغب المزعومة تلك بدأت في ساحة المستشفى قبل الجنازة وفي بدايتها. لكن هل تُوافق مقاطع الفيديو التي وثّقت الجنازة، المزاعم الإسرائيلية؟
لا يبدو ذلك. أجرى "مسبار" تحليلًا لمقاطع الفيديو وتسجيلات البث المباشر للجنازة على موقعي فيسبوك ويوتيوب، ومقارنةً بين الرواية الإسرائيلية ومتابعة الصحافيين للجنازة وتصريحات عائلة أبو عاقلة؛ ليتّضح التضليل في الرواية الإسرائيلية.
الشرطة الإسرائيلية لم تُنسّق مع عائلة أبو عاقلة
قُبيل الساعة 12 ظهرًا من يوم الجمعة، نظّم عدد من المشيّعين وقفةً بالأعلام الفلسطينية أمام بوابة المستشفى الفرنسي. بدت الوقفة مسالمةً، لا تظهر الشرطة الإسرائيلية في الأرجاء، فيما المشيعيون يهتفون بسلميّة ودون أي بوادر عنف محتمل، وكاميرات الصحافيين من كل الجهات، بما في ذلك المنطقة ما بين المشيّعين والبوابة الداخلية للمستشفى حيث سيخرج جثمان أبو عاقلة.
وفي الأثناء، وعبر البث المباشر، يقوم مراسلو الجزيرة بإرسال التطورات على الأرض: بدأت الشرطة الإسرائيلية في التوافد على محيط المستشفى قرابة الساعة 12 و30 دقيقة مساءً. لم يكن النعش قد خرج بعد. ثمّة توتّر في الأجواء، لكن دون عنف، وكانت الشرطة لا تزال خارج أسوار ساحة المستشفى.
بالتدريج بدأ توافد عناصر الشرطة إلى داخل الساحة لعرقلة حركة الجنازة، تحديدًا بعد أن خرج النعش من المستشفى. أوقفت الشرطة حركة الجنازة تمامًا، وفجأة هرول عناصرها نحو المشيّعين لدفعهم إلى الخلف حيث بوابة المستشفى.
تقول الشرطة الإسرائيلية إنّها نسّقت مع عائلة شيرين أبو عاقلة لترتيب أمر الجنازة. وتقول أيضًا، إنّ هدف وجودها كان تسيير الجنازة بسلاسة، دون أن توضّح ما هي الترتيبات التي نسقّت بشأنها مع أسرة الصحافية، وما السلاسة المقصودة.
لكن، وفقًا لمراسلة الجزيرة، في خبر عاجل أورده حساب "الجزيرة عاجل" على موقع تويتر، فإنّ الشرطة الإسرائيلية اشترطت إنزال الأعلام الفلسطينية وإخراج جثمان شيرين أبو عاقلة بواسطة عربة الموكب الجنائزي، في حين أصرّ المشيّعون على حمل النعش.
كما يبدو من تصريحات طوني أبو عاقلة، شقيق الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، لم يكن هناك تنسيق لترتيبات الجنازة كما تزعم الشرطة الإسرائيلية. قال طوني أبو عاقلة في تصريح نشره حساب "الجزيرة عاجل" على موقع تويتر في الساعة 11 و40 دقيقة، إنّ "قوات الاحتلال استخدمت التهديد لمحاولة فرض قيودٍ على التشييع". وقال أيضًا "قوات الاحتلال الإسرائيلي تتربص بالتشييع ونتمنى أن يمرّ بسلام".
كما يتضح، جاءت تصريحات طوني أبو عاقلة، قبل توافد عناصر الشرطة الإسرائيلية إلى محيط المستشفى بنحو ساعة، وكان الجثمان لا يزال بداخل المستشفى. لا يبدو إذًا أنّ ثمّة تنسيق مسبق بين الشرطة وأسرة أبو عاقلة. في المقابل، يمكن استنتاج أنّ الشرطة الإسرائيلية ربما هدّدت العائلة مسبقًا لفرض قيود على التشييع.
وبحسب مراسلة شبكة سي إن إن، فإنّ الشرطة الإسرائيلية، وقبل خروج النعش، قالت إنّها لن تسمح بجنازة على الأقدام، ما يتوافق مع تصريح شقيق أبو عاقلة عن "فرض قيود على التشييع".
وفي البث المباشر للجنازة، تظهر بوضوح هتافات المُشيّعين المُطالبة بتسيير الجنازة على الأقدام. ويُمكن سماع الهتافات بدايةً من الدقيقة 15 في مقطع الفيديو أدناه، بالتزامن مع دخول عربة الموكب الجنائزي إلى ساحة المستشفى.
لا أعمال شغب قبل الجنازة
زعمت الشرطة الإسرائيلية أيضًا أنّ أعمال شغبٍ اندلعت قبل الجنازة وفي بدايتها، لكنّ ما ظهر في مقاطع الفيديو والبث المباشر ينفي ذلك الادّعاء، إذ يتبيّن قبل الجنازة أنّه لم تكن ثمة سوى وقفة لمشيعين يحملون الأعلام الفلسطينية ويهتفون دون "شغب"، في ساحة المستشفى المحاطة بالأسوار.
لم تبدأ أيّ أعمال عنف إلا بعد توافد عناصر الشرطة إلى داخل الساحة، وعرقلة حركة الجنازة عند خروج النعش، كما تُوضّح أيضًا مقاطع الفيديو. ما ينفي بدوره ادعاءً آخر للشرطة الإسرائيلية بأنها كانت تعمل على منع تعطيل الجنازة، في حين يبدو أنّها من تسبّبت في تعطيلها.
وفقًا لمراسل قناة الجزيرة، فإنّ ضابطًا في الشرطة الإسرائيلية هدّد باقتحام القوات الإسرائيلية للمستشفى في حال استمرّت الهتافات. وقد كانت الشرطة الإسرائيلية موجودة بالفعل إلى جوار المستشفى، قبل أن تقتحم ساحتها.
تحرّكت القوات الإسرائيلية إلى أمام البوابة الخارجية للمستشفى. حتى تلك اللحظة لم يكن ثمّة أي "شغب" مما زعمته الشرطة الإسرائيلية. وكانت سيارة الموكب الجنائزي في ساحة المستشفى، ولم يتعرّض لها أحدٌ بالتخريب كما زعمت إسرائيل. ولم يظهر في الساحة حجارة، فقط بعض زجاجات المياه البلاستيكية الملقاة على الأرض.
غادرت سيارة الموكب الجنائزي ساحة المستشفى مع إصرار المشيّعين على تشييع الجنازة سيرًا على الأقدام. ثمّ خرج النعش تتقدمه عائلة شيرين أبو عاقلة. حمله المشيعون على الأكتاف، وساروا به وسط الهتافات إلى البوابة الخارجية للمستشفى. هناك كانت قوات الشرطة الإسرائيلية بانتظارهم. فُتحت البوابة، وبدأت القوات الإسرائيلية بالتوافد ودفْع المُشيّعين لإجبارهم على الرجوع مرة أخرى.
هنا بدأت قوات الشرطة الإسرائيلية في الاعتداء على المشيّعين وحاملي النعش. بداية من الدقيقة 53 في البث المباشر، يظهر بشكل واضح استخدام الهراوات في ضرب المُشيّعين لإجبارهم على الرجوع.
ووفقًا لمراسلة شبكة سي إن إن، ألقت قوات الشرطة الإسرائيلية على المُشيّعين قنبلتي صوت على الأقل، بالإضافة إلى قنابل الغاز. الصورتان التاليتان تؤكدان ذلك.
ينفي ذلك ادعاء الشرطة الإسرائيلية بأنّ أعمال شغب بدأت قبل الجنازة وفي بدايتها في ساحة المستشفى. ينفي ذلك أيضًا ادعاءها بأنّ قواتها تصرّفت كرد فعل على أعمال الشغب، فوفقًا لما هو مُوثّق بالفيديو بدأت أعمال الشغب من جانب القوات الإسرائيلية، عند بوابة ساحة المستشفى، إذ اعتدت عناصر الشرطة بالهراوات على المشيّعين.
فيديو مُفبرك؟
بعد ذلك البيان مباشرة، نشر حساب الشرطة الإسرائيلية على موقع تويتر، مقطع فيديو، مُدّعيًا أنّه يُثبت اعتداء مشيعين على القوات الإسرائيلية بإلقاء حجارة وأشياء أخرى.
يتكوّن الفيديو من مقطعين، كلاهما التُقط بعد أن اعتدت القوات الإسرائيلية بالفعل على المشيعين عند بوابة ساحة المستشفى، إذ يُظهر المقطع الأول من الفيديو، بوضوح، أنّ النعش قد تراجع إلى منتصف ساحة المستشفى مع تقدّم قوات الشرطة الإسرائيلية، فيما يُظهر المقطع الثاني تراجع النعش إلى الأسفل قرب البوابة الداخلية للمستشفى.
بالعودة إلى البث المباشر يُصبح المشهد أوضح: تستمر الاعتداءات الإسرائيلية على المُشيّعين باستخدام الهراوات لدفعهم إلى التراجع، بمن في ذلك من يحملون النعش.
في الأثناء وبعد أن تقدمت قوات الشرطة وتراجع النعش إلى منتصف الساحة تقريبًا، تظهر بالفعل أشياء تُلقى من الخلف باتجاه القوات الإسرائيلية؛ إنها زجاجات المياه البلاستيكية وعصيّ بلاستيكية من التي تُعلّق عليها الأعلام. إذًا اضطر المشيّعون إلى الدفاع عن أنفسهم في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية وعرقلتها لتسيير الجنازة، باستخدام زجاجات مياه بلاستيكية وعصيّ بلاستيكية أيضًا.
توالى رمي الأشياء البيضاء المتشابهة جميعها في نفس الهيئة الطولية؛ زجاجات المياه البلاستيكية. في الأثناء، كانت الشرطة الإسرائيلية تزيد من استخدام الهراوات لدفع المُشيعين إلى الخلف.
تُظهر زاوية أخرى، بوضوح أكبر، بداية الاعتداء الإسرائيلي على المُشيّعين عند بوابة ساحة المستشفى. تُظهر اللقطة تدافعًا قويًا من قبل الشرطة الإسرائيلية.
في المقطع الأوّل من الفيديو الذي نشره حساب الشرطة الإسرائيلية على "تويتر"، يظهر من الخلف شخص يرتدي قميصًا أسود، يُلقي بشيء أبيض باتجاه القوات الإسرائيلية. بالتركيز في الشيء الأبيض الذي يُلقيه، يتضح أنه يُشبه الأشياء البيضاء الطولية سابقة الذكر، أي زجاجة مياه بلاستيكية.
في اللقطة التالية من المقطع نفسه، يُمكن استيضاح أنّها زجاجة من أبعادها وطريقة إمساك الشخص لها، حيث تقبض يده على طرفها، بينما بقيتها إلى أعلى.
أمّا في المقطع الثاني من الفيديو نفسه، فنشرت حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي ما قالت إنّه يُثبت فبركته بإضافة جسم وكأنّه ملقى من قبل أحد المُشيّعين، بينما تُظهر الكاميرات التي التقطت المشهد من زاوية أخرى أكثر وضوحًا، أنّ المشيّع نفسه في اللحظة نفسها، لم يكن يُلقي شيئًا، بينما كان عناصر الشرطة الإسرائيلية يضربونه وغيره من حاملي النعش بالهراوات، حتى كاد النعش يسقط.
في كل الأحوال، يُثبت تحليل مقاطع الفيديو والبث المباشر التي وثّقت الجنازة، تضليل ادعاءات الشرطة الإسرائيلية. ومع ذلك، أصدرت الشرطة الإسرائيلية بيانًا أخيرًا، في 14 مايو الجاري، قالت فيه إنّها ستحقق في الأحداث، لكن في البيان نفسه أيضًا قدمت الادعاءات المضلّلة نفسها، حول أعمال شغب بدأها مُشيّعون واستخدامها للقوة لاحقًا بعد تعرض عناصرها للعنف من قبل المشيعين.